شعب الأمازيغ .. صرخة حرية تاريخية
حرية شعوب العالم ممكنة عبر ذهنية الأمة الديمقراطية والكونفدرالية الديمقراطية، وسيكون الشعبين الأمازيغي والكردي رائدان لهذا الأمر، وسيوصِلان الشعوب والعالم إلى مستقبلٍ حر.
حرية شعوب العالم ممكنة عبر ذهنية الأمة الديمقراطية والكونفدرالية الديمقراطية، وسيكون الشعبين الأمازيغي والكردي رائدان لهذا الأمر، وسيوصِلان الشعوب والعالم إلى مستقبلٍ حر.
الشعب الأمازيغي يشبهُ الشعبَ الكرديَّ من ناحية توزّعه في بلدانٍ مختلفة، ويُعتبَرُ من أقدم الشعوب في شمال أفريقيا، يعيش في الوقت الرَّاهن ضمن تسعة دولٍ أفريقيَّة هي: المغرب- الجزائر – تونس – ليبيا – مالي – النيجر – بوركينا فاسو – مصر – موريتانيا، ومنذ أن بدأ الاحتلال تم حَظر وصهر ثقافته ولغته كشعب. في وقتنا الرَّاهن، لا أحد يعرف هذا الشعب القديم إلَّا بعد نعته بالـ بربري – وليس هذا فحسب وكمأساة مثيرة للسخرية أن بعض المجتمعات الأمازيغيَّة تنعتُ نفسها بالقول: "نحنُ عربُ!!". الآن، ورغم أنَّ أغلبهم باتوا مسلمين بيدَ أنَّ لديهم معتقداتٌ مختلفة، وتنتمي اللغةُ الأمازيغيَّة التي يتحدَّث بها الشعبُ الأمازيغي إلى اللغاتُ الآفرو آسيويَّة.
وإن نظرنا للشعب الأمازيغي بعقليَّة الدولة القومويَّة، فمن الصعب فهمه، لِمَ ذلك؟ لأنَّ الشعب الأمازيغي متناثرُ العيش على العديد من البلدان، وداخل حدود العديد من الدول، يعيش بلا وطن، بيد أنَّ الشعب الأمازيغي أمَّة واحدة لها لغتها وثقافتها وتاريخها المُقاوِم وارتباطها بأرضها، ووفقاً لذهنيَّة الدولة القومويَّة: "من الضروري أن تكون لكل أمَّة دولتها ورايتهُا الخاصَّة بها، وأن يكون لها دينٌ واحد ولغة واحدة، وإلَّا فلن يكون ذلك الشعبُ قوميَّةً، ولن تكون هناك أمَّة"، لكن رغم أنَّ الشعب الأمازيغيّ لا يمتلكَ دولةً منذ مئات السنين، سوى أنَّه قام بحماية مجتمعه، ولا سيما بشكله القَبليّ والعشائريّ ولغته وثقافته الاجتماعيَّة، وكمثالٍ، وحتَّى في قرننا الواحد والعشرين يعرّفون أنفسهم باسم قابيلي في المغرب ،(30 - 40 مليون نسمة)، وفي تونس باسم الجربة ( 90 ألف نسمة)، وفي ليبيا على أنَّهم انفوسيُّون، وفي مصر على أنَّهم سيويّون (نسبةَ إلى واحة سيوة)، وفي مالي وغرب أفريقيا يعرفون على أنَّهم الطّوارق (2 - 3 مليون نسمة)، ورغم وجود حقيقةٍ على هذا النَّحو، فإنَّهم يعيشون في قارة أفريقيا على جغرافيا واسعةٍ تبلغ حدودها حوالي 5 مليون متر مربع، وأما من ناحية اللغة، فلها تاريخٌ طويل، حيث هناك تقريباً لهجاتٌ مختلفة لعائلة التامازي (يُطلق الأمازيغيون على اللغة التي يتحدَّثون بها، اللغة التامازيَّة)، ولكن في الوقت نفسه فإنَّهم يتلاقونَ فيما بينهم من حيث أساسيَّات الثقافة المجتمعيَّة مثل: "اللغة – التاريخ – المكوِّن القبليّ والعشائريّ – الارتباط بالأرض وما إلى ذلك)، وليس بمقدور بعض الاختلافات كاللهجات وحدود الدول المختلفة أن تفرِّق بينهم، بل على النقيض من ذلك، تغدو تلك العوامل بمثابة غنىً وثراءٍ وتعدُّدٍ للشعب الأمازيغيّ.
التاريخُ القديم للشعب الأمازيغيّ
هذا الشعب هو شعبٌ قديم في شمال أفريقيا، وطِبقاً للدراسات والأبحاث التاريخيَّة فإنَّ تاريخه يرجَع إلى نحو خمسة آلاف سنة، كما وتمَّ العثور في بعض كهوف المنطقة على لوحاتٍ جداريَّة تعودُ لأسلافه منذ العصر الحجريّ، وهذا معناه أنَّه شعبٌ عريق في القدم، أصوله وجذوره متأتِية من تاريخٍ قديمٍ للغاية. ومن خلال الأبحاث الأثريَّة، خمّن في البداية (جوردون تشايلد- 1930) بأنَّ ثورة العصر الحجري الحديث قامت في الهلال الخصيب، ومن ثمَّ انتشرت من هناك إلى كل أرجاء العالم، ولكن كنتيجةٍ للأبحاث التي أُجريت من قبل برودواي عام 1960 توضح على نحوٍ أفضل بأنَّ هذه الثورة كان مكانها ميزوبوتاميا العليا، منبع نهري دجلةَ والفرات، أي هي ذاتها كردستان، حيث انتشر الهلال الخصيب من هناك نحو العالم. وكما هو الحال، فقد أُثبِتَ مرَّةً أخرى، بأنَّ البشرية قد أضحت على شكل بشر قبل 2.500.00 سنة في شرق أفريقيا ومن ثمَّ مجتمعاً، ومن بعدها انتشروا من هناك إلى الجهات الأربع للعالم، ووفقاً لذلك، فإن بعض القبائل نشأت في شرق أفريقيا وانتشرت نحو شمال أفريقيا، كما وأنَّ لبعض تلك القبائل لوحاتها في كهوف المنطقة، أي أنَّ أسلاف الشعب الأمازيغي متأتُّون من هذه الرِّحلة الطويلة، وهو موضوعٌ مثيرٌ للاهتمام يوضِّح لنا كيف لعب أسلافُ الشعبين دوراً في خلق البشريَّة خلالَ يومنا الرَّاهن.
كانَ ابن خلدون (القرن الرابع عشر) من أوائل الفلاسفة الذين قاموا بأبحاث عن بعض العلوم كعلم الاجتماع وعلم الأنسجة والاقتصاد، وأوصل جهوده في هذا الميدان إلى مستوى علمي، حيث يقول عن الجغرافيَّة التي يعيش عليها الأمازيغ: "من جغرافيا مصر إلى حدود المحيط الهادئ، ومن البحر الأبيض إلى الصحراء الكبرى، ثمَّة مجتمعٌ يعيشُ ويُطلَق عليه الأمازيغيُّون ويتحدَّثون اللغة التامازيَّة"، ولإظهار وجود شعب وقيمه الثقافيَّة والتاريخيَّة ما من دواعٍ كثيرة للأدلَّة التي ذكرناها آنفاً، ولكن، لأنَّ التاريخ كان على الدوام مدوَّناً من قبل القوى الإمبريالية الإستعمارية فقد طويت الشعوب المضطهدة والشعوب القديمة قِدَم التاريخ في صفحات النسيان، لذا نسلِّط الضوء على مثل هكذا حقائق. وبناءً عليه، فإنَّ الشعبَ الأمازيغي، الشعب الكردي، الشعب الأميركي من الهنود الحمر بثقافاتهم ولغاتهم وتاريخهم الاجتماعي وما إلى ذلك، ليسوا بحاجةٍ إلى أيِّ اثباتاتٍ أو دلائل.
كما ذكرنا آنفاً، فإن إحدى الجغرافيَّات التي يعيش عليها الشعب الأمازيغي هي مصر، ومن المعروف فإن مصر تشتهر بفراعنتها. طيبة مدينة مصريَّة ذات آثار تاريخية، وقد تم اكتشاف معبد آمون ضمن التنقيبات والبحوث الأثرية التي أجريت في هذه المنطقة، حيث يعود تاريخ هذا المكان إلى حقبة قديمة جدًا أي (القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد)؛ أي أن عمره حوالي 3-4 آلاف سنة، وهنا ذُكِرَ في الأبحاث التي تم إنجازها ورود قصة الشعب الأمازيغي ضمن الكتابات الهيروغليفية. وكما رأينا أعلاه، فإنَّ إحدى المشاكل الأساسيَّة في تعريف هذا الشعب تكمن في تسميته، ولكن هذا ليس خطأً أو تقصيراً من هذا الشعب ذاته، فلو عرف العالمُ هذا الشعب من خلاله مباشرةً لما كان ثمَّة مشكلة أو خَلط، ومن الممكن أنَّه لم يكن معروفاً منذ أيِّ زمنٍ يطلق هذا الشعب على نفسه اسم: أمازيغيّ، ومفردة: "أمازي" تعني: "المجتمع الحرّ"، "الشعب الحرّ"، وفي الحقيقة فقد استمرّ هذا المجتمع في العيش والحياة بهذه الروح منذ آلاف السنين. المشكلة هي أنه يستمدُّ منابعه ومصادره "التاريخية" من التاريخ المدوَّن بيد قوَّات الاحتلال. ووفقاً للبيانات التاريخيَّة، تعرَّف الأوروبيّون لأوَّل مرَّةٍ على الشعب الأمازيغيّ عبرَ اليونانيين القدماء الذين أرادوا غزو شمال أفريقيا، فيُواجَهون بمقاومةٍ وقتالٍ شرسٍ للغاية من قبل الأمازيغيين، حيث تتّحد العشائر والكلانات الأمازيغيَّة في ذلك الوقت وتقوم بتشكيل جيوشها على شكل اتّحاد فيدراليّ، وترفض العبوديَّة ونهب الغُزاة اليونانيين لها، إنَّما تقاتل لحماية بلدها ومجتمعها وتخوض حرب الوجود أو اللاوجود، وقد أطلق اليونانيُّون على هذا المجتمع المقاوم: "البرابرة"، (البربري مفردة تعني في اللغة اليونانيَّة: الوحشيّ، غير المتحضِّر، الشعوب والمجتمعات التي لا دولَ لها)، وغالباً ما قاتل نبلاء وشعب الأمازيغ ضد جيوش قرطاج، وبسبب حروبهم هذه فإن الاسم الذي أطلق عليهم اليونانيّون قد استخدمه القرطاجيون أيضاً.
كانت روما على الأخصّ - وهي قوَّة احتلال أوروبيَّة- تستمدّ إرثها من احتلالها لليونان القديمة، التي قامت أيضاً مرَّاتٍ عدَّة باحتلال المناطق الواقعة في شمال أفريقيا، ليأخذ الشعب الأمازيغي حصته من هذا الاحتلال أيضاً، ولكن في كلِّ مرَّةٍ، يكون استقبالهم لها بمعارك لا تقل عن معارك العصور الماضية، لذا فإنَّ هذه القوَّة المحتلَّة تستخدم الاسم نفسه الذي تم إطلاقه على الشعب الأمازيغي، حتَّى أنَّ بربروس المفردة اليونانيَّة تغدو رومانيَّة، حيث يطلقون على الشعب الأمازيغي: بربر – بربروس، ومع مرور الزمن تتحوَّل المفردة إلى: "بربريَّة"، وفي يومنا الرَّاهن تجمع هذه القضية الشعبين الكردي والأمازيغي على نحوٍ مأساوي تراجيدي، فاليوم، ولأنَّ الكرد يقاتلون لأجل أرضهم وبلادهم ولغتهم وثقافتهم وحريتهم، فإنَّ دول الاحتلال تتهمهم بأنَّهم: "إرهابيون".
بعد الإمبراطوريَّة الرومانيَّة، احتلت الدولتان الأمويَّة والعبَّاسيَّة شمال أفريقيا تحت مسمَّى: "الجهاد"، وقد أصرَّ الشعب الأمازيغي على المقاومة، فهاجمت جيوش العرب المسلمين شعوب شمال أفريقيا والأمازيغيين سبع مرَّاتٍ، ولم يكن بمقدورها إجبار الشعوب على الاستسلام، ومن ثمّ تستعدّ للهجوم الثامن، وقد كانت المقاومة النهائيَّة مثيرةً للاهتمام، حيث أن هذه المقاومة الأمازيغيَّة كانت بقيادة قائدة تُدعى: "كاهين" وتبدأ المقاومة من جبال الأطلس (فاس – المغرب)، ولكن مع الأسف وكنتيجةٍ للحرب هُزِمَت قوات المقاومة، ورغم ذلك، فإنَّ المجتمع الأمازيغي (القبليّ) لا يزال يربِّي أطفاله على بطولات وقصص تلك المقاومة.
من الممكن أن تكون المقاومة التاريخيَّة للشعب الأمازيغي ناجعة، سوى أنَّ الأمازيغيين يحافظون على روح الارتباط بالحياة داخل مجتمعهم ويجعلونها حيَّة، ويعزِّزون من دور المرأة داخل المجتمع، يقول الباحث الأمازيغيّ: "محمد اشتاتو" عن مجتمعه كتحليل لهذا المجتمع: "ثمَّة في النظام العشائريّ للأمازيغيين، سيطرة للنظام الأمومي، بينما في الثقافة العربيَّة السلطة لا تزال ذكوريَّة وأبويَّة"، وفي الحقيقة، يستمدَّ الدكتور محمد اشتاتو تحليله هذا للمجتمع الأمازيغي من الجذور المتأتيَّة من آلاف السنين لهذا الشعب، بالإضافة إلى المقاومة التي لا مثيل لها، ويتلاقى المجتمعان الكردي والأمازيغي في هذه النقطة ويتشابهان، وبقدر ما تمَّ الحصول عليه من بياناتٍ ومعرفةٍ أثريَّة، فإنَّ مركز ثورة العصر الحجري الحديث هو جغرافيَّة كردستان في اليوم الرَّاهن، وقد كان العامل الأساسي لهذه الثورة هي المرأة الأمّ، وقد قام المجتمع الكردي بناءً على هذا الإرث وخلال ثورة روجآفا بتشكيل وحدات حماية المرأة، وقبلها كافح من أجل حرية الشعب الكردي عبر وحدات المرأة الحرَّة.
بعد هذه المرحلة، تبدأ بالنسبة للشعب الأمازيغي مرحلة سلبيَّة من الناحية الثقافيَّة والاجتماعيَّة، حيث تحتلّ الثقافة واللغة الأمازيغية على نحوٍ تدريجي المركز الثاني أمام الثقافات واللغات العربيَّة، ولا سيما أنَّ الطبقات الحاكمة الأمازيغيَّة تحاول بشتّى السبل ربط أنفسها بالأقوام العربيَّة المُسلمة. ومن ثمَّ تتزايد وتيرة الأسلمة والتعريب بين الطبقات الأمازيغيَّة العُليا، مثال: نظراً لأنَّ قائدة الحرب الأخيرة كانت إمرأة تدعى: "كاهينا" فقد عرَّفت الجيوش العربيَّة الغازية آنذاك هذه المرأة على أنَها: "المرأة الساحرة"، ولكن مفردة: "كاهينا" تعني في اللغة الأمازيغيَّة: "النبيّ"، وقد استندت وارتكزت الجيوش العربيَّة الإسلامية أيضاً على التقليد والإرث اليوناني والإمبراطوريَّة الرومانيَّة، ووصفوا الأمازيغيين على أنَّهم: "متوحّشون"، و "وحوش" و "بعيدون عن المدنيَّة". ولكن المجتمع الأمازيغي لا يستسلم لقيود وشروط القوات الغازية والمحتلَّة، بل يحاول أن يعيش بحريَّةً وفقاً لثقافته القَبَليَّة، ولأجل ذلك عرَّف المحتلُّون القائدة الأمازيغيَّة: "كاهين" على أنَّها: "المرأة السَّاحرة".
فيما بعد الغزو الأخير، تصبح قوَّة غازية من أصولٍ طورانيّة بمثابة كابوسٍ جاثم على صدور السكَّان في المنطقة والشعب الأمازيغي، فتواصل الإمبراطوريَّة العثمانيَّة محاولة هيمنتها على المنطقة لفترةٍ طويلة ويغدو هذا مشكلةً بالنسبة للأمازيغيين من الناحية الاقتصاديَّة والسياسيَّة، ولكن تأثيرها من الناحية الثقافية على الشعب الأمازيغي ربما ليس بالكبير أو هكذا يبدو، أو قد يبدو بأنَّها لم يتم تحولهم لأتراك، وذلك لأنَّ الشعب الأمازيغي رفض الغزو وقاوم، وقد عرَّف الغزاة العثمانيُّون هذا الشعب على أنَّهم: "برابرة"، واستمرَّت هذه التسمية شائعةً في العالم للأسف حتَّى القرن العشرين.
دور الشعب الأمازيغي في تاريخ شمال أفريقيا الحديث وتأثيره على الثقافة العالمية
نظَّمت الحضارة الإسلامية نفسها في القرن الثامن تحت اسم: "الدولة الأمويَّة"، وسيطرت حتَّى على شمال أفريقيا، حتَّى أن انتشار هذه الحضارة بلغ مستوى وصلت فيه إلى القارة الأوروبيَّة.
قائد الجيش الأمويّ الذي مرَّ بمضيق جبل طارق (بات اسم هذا المضيق، جبل طارق، عقِب مروره به)، وطارق بن زياد هو أمازيغيّ، وكما هو معروف، فبعد دخول الجيش الأموي إلى أوروبا وإسبانيا بنوا هناك الأندلس المرتبطة بالأمويين، وحين أنهى العباسيّون الدولة الأمويَّة، استمرَّت الأندلس في الوجود على أنَّها جغرافيا منفصلة، وخلال الفترة نفسها أنشأت الطائفة الأمازيغيَّة في المغرب العربي دولة مركزها مرَّاكش، حيث يقومون بتنظيم أنفسهم على جانبي جبل طارق وتلعب دوراً هامَّاً في حماية الأندلس، ويقارن البعض من المثقفين هذا الدور الذي لعبه الشعب الأمازيغيّ (دوره في حضارة الأندلس – دولة المراتب) في حماية الثقافة الإسلاميَّة وتطويرها بالدور الذي لعبه صلاح الدين الأيوبيّ الكرديّ، لأنَّه وفي تاريخٍ مختلف (حوالي القرن الثاني عشر) كان صلاح الدين الأيوبي قد صدَّ وكسرَ هجمات الحروب الصليبيَّة على الشرق الأوسط.
طارق بن زياد القائدُ في ذلك الوقت، والذي أوصل جيوش المسلمين إلى الأراضي الأوروبيَّة بأمانٍ، كان أمازيغيَّاً، فثمة العديد من الجنود والفنانين والحرفيين والمزارعين في الحضارة الأمويَّة الأندلسيَّة من الأمازيغيين أيضاً. ومعروفٌ بأنَّ الفكر والعامل الأندلسي له دور في تكوين الحضارة الأوربيَّة المعاصرة والثقافة العالميَّة، ولأنَّ موضوعنا ليس تاريخ وثقافة الأندلس على وجه التحديد، فلا حاجة إلى التوسِّع في هذا الموضوع أكثرَ مما يلزَم وينبغي، لكن، نريدُ لفتَ الانتباه إلى الثقافة الأندلسيَّة ولو بشكلٍ محدود للغاية. دمَّرت القوى الأوروبيَّة المهيمنة في القرن الحادي عشر حضارة الأندلس عقِبَ حروبٍ طويلة الأمَد، وقد تعرَّض الشعب المُسلم في الأندلس إلى إبادة ومذابح، فيما هُجِّرَ البقيَّة، وإلى وقتنا الرَّاهن، لا تزال المساجد والمقابر والمزارات والآثار التاريخيَّة التي بناها العرب والأمازيغيُّون وآخرون موجودةً في إسبانيا، وحين دُمِّرت الأندلس، كان ثمة مليون كتاب في مكتبة مدينة غرناطة، كانوا يحضرون الكتب ويضرمون فيها النيران في ساحة المدينة المسمَّاة: "بابور"، حيث لم ينجو من هذه الكارثة التاريخيَّة سوى جزء صغير جدَّاً من تلك الكتب، ويقول العالم الفيزيائيّ الفرنسي بيير كوري في هذا الصدد خلال بدايات القرن العشرين: "لقد بقي لنا من الأندلس المُسلمة ثلاثون ألف كتاب، لقد كان بمقدورنا تجزيئ الذرَّة، ولو حصل وبقي نسلهم لكان بمقدورنا السفر بين النجوم منذ فترةٍ طويلة"، وتضمَّنت تلك الكتب معرفةً عن علم الفلك والقصص ونسل الملوك وأسس وقواعد وأنظمة التجارة والبيع والشراء، فقد كان مستوى التعليم متقدّماً جدَّاً في الأندلس لدرجة أنّ معظم أهلها متعلِّمون، بينما في ذلك الوقت، ثمة عددٌ قليل فقط من الأشخاص المحيطين بالملوك والأمراء في أوروبا ممن يتقنون القراءة والكتابة. وقد لعب التراث العلمي والثقافي هذا فيما بعد الدور الهامّ في أوروبا من أجل تطوير حركة النهضة والإصلاح والتنوير (منذ القرن الخامس عشر إلى السادس عشر والسابع عشر)، وضمن وقتنا الرَّاهن يرتبط -وعلى نحوٍ مباشر- مستوى العلم والفن والفلسفة في العالم بهذه المرحلة التاريخية، وحين نستذكر هذه الحقيقة فإنَّ دور هذا الشعب في الثقافة العالمية يكاد أن يكون مفهوماً بحدِّ ذاته. لكن وفي الوقت نفسه، هذا لا يعني أنَ كل شي جيد في الأندلس صنعه الأمازيغيُّون، فالقوة الرئيسية التي تبني الأندلس وتحفِّزها هي دين وروحانيَّة الإسلام، ولكن حين تؤخذ جغرافيَّة الشعب الأمازيغي التي عاش عليها في عين الاعتبار (شمال أفريقيا والأندلس آنذاك)، فإنَّ الدور التاريخي للشعب الأمازيغي بالنسبة لـ حضارة أوروبا والعالم ليس بحاجةٍ إلى أيَّة براهين أو أدلَّة.
حين هُزمَت الإمبراطوريَّة العثمانيَّة خلال الحرب العالميَّة الأولى، أقدَمت على الانسحاب من جميع الأراضي التي عاش وانتشر فيها الشعب الأمازيغي والعربي، وتقوم فرنسا وإيطاليا باحتلال أجزاء كبيرة من أراضي شمال أفريقيا، ومع حلول العام 1962 باتت أراضي شمال أفريقيا ولا سيما الجزائر مستعمرَةً للدولة الفرنسيَّة، فيقوم الشعبين الأمازيغي والعربي بتنظيم أنفسهما ويقاتلان ضدّ الاحتلال الفرنسي، وكنتيجةٍ لذلك يتم بناء دولة الجزائر عام 1962، ولكن عبر انقلاب، يستولي العنصريون العرب على كافة مؤسسات الدولة وينهون وجود الشعب الأمازيغي، ويحظرون لغتهم، ويطوِّرون من أفكار الأمَّة العربيَّة، وهذا الجانب الأمازيغي يشبه الجانب الكردي بشكلٍ كبير، ففي حرب التحرير التركيَّة خلال الأعوام: 1919 – 1921 يعقد كمال أتاتورك اتفاقاً مع الكرد، حيث يقاتل الأتراك والكرد ضدَّ الامبرياليَّة، بيدَ أنَّه وبعد قيام الجمهوريَّة التركيَّة، باتَ الكرد محرومون في تركيا كما حصل الأمرُ في الجزائر، ويقضون سنواتٍ عجافٍ وهم يتعرَّضون للإبادة الجماعيَّة والقوميَّة وتُحظَر ثقافتهم ولغتهم.
إنَّ معظم دول شمال أفريقيا مبنيَّة على الذهنيَّة ذاتها، أي على شكل دولة قوميَّة، أو كما كان عليه الحال في الجزائر، حيث يسيطرون على مؤسسات الدولة عبر المؤامرات وينكرون الشعب الأمازيغي ولا يعتبرونهم موجودين (رغم أنَّ هناك دول مختلفة وفي تواريخ مختلفة تعترف ببعض حقوق الشعب الأمازيغيّ)، ونظراً لذهنيَّة تلك الدول، فإنّ خدماتٍ مثل الطرق والكهرباء وفرص العمل مثل المصانع وغيرها والمشافي والتعليم غير مرَّحب بها في المناطق التي يعيش فيها الأمازيغيُّون، لذا يضطر الشعب الأمازيغي للهجرة إلى العواصم الأوروبيَّة منذ بدايات العام 1900 على إثر أسباب اقتصاديَّة ومعيشيَّة وسياسيَّة، وفي الوقت الرَّاهن يعيش أكثر من مليوني أمازيغي في فرنسا لوحدها، فيما يعيش أكثر من مليون شخصٍ آخر في بلدان أوروبيَّة مختلفة، وهذا حالٌ متشابه فيما بين الكرد والأمازيغييّن، حيثُ أن الكرد وللأسباب ذاتها يرمونَ مصائرهم إلى أوروبا، ولكن كلا الشعبين لا ينسيَان الوطن، حيث يبنيان تجمّعاتهما لأجل حرية اللغة والثقافة والوطن، والآن، لا سيما في أوروبا يعرف الشعبان بعضهما البعض في فرنسا وكل أرجاء أوروبا، يزوران تجمعات بعضهم البعض ويشاركان في الأنشطة سويَّةً.
ثمَّة جغرافيا أخرى يعيش فيها الشعب الأمازيغي (إنفوسين – الطوارق) وهي ليبيا، حيث يحافظ الأمازيغ الذين يعيشونَ هنا على نهج الخوارج في الإسلام، وبعد أن أصبح القذافي رئيساً لليبيا، أقام علاقاتٍ مع هذا الشعب، ولا سيما إبَّان الحرب الليبيّة-التشاديَّة، -حيث استفاد منهم القذافي- واستخدم هذا الشعب بمثابة قوَّةٍ عسكريَّة، وفي التدخل الأخير لقوى الإمبرياليَّة في الشرق الأوسط، استخدموا مرة أخرى من قبل القذافي كقوَّة حربيَّة، ولكن هذا لم يكن بمقدوره أن يُنجيَ القذَّافي من مخططَّات النظام الإمبرياليّ. بعد القضاء على نظام القذافي، قام الشعب الإنفوسي خلال العام 2013 ببناء نظامٍ مشابهٍ لنظام روج آفا في مناطقه.
ثمَّة دولة أخرى ينشط فيها الشعب الأمازيغي، وهي مالي، حيث يعيش شعب الطوارق في صحراء تلك البلد على نحوِ شبهٍ بدويّ، وعلى غرارِ كل دولةٍ قوميَّة، وبعد تأسيس مالي تمَّ العمل على حرمان الطوارق (يتحدَّثون لغةً تنتمي إلى عائلة تامازي) وإنكار وجودهم. وإلى فترة معيَّنة في شمال سوريا، لم يكن يتم اعتبار الكرد ضمن التعداد السكَّاني، ولم يكن يتم النظر إليهم كمواطنين، والطوارق أيضاً كانوا يُنكَرون بالكامل في مالي، ولكن بعد بدء حراك ربيع الشعوب، بدأ الطوارق حراكَهم التحرريّ في مالي تحت مسمَّى: أزواد، وأعلنوا بعد صراعٍ مسلَّح مع الدولة استقلالهم في مناطقهم، بيدَ أنَّ دول العالم رفضتهم خلال وقتٍ قصير، ورغم ذلك استمرَّوا في الحكم ضمن مناطقهم التي يعيشونَ فيها، وحين باتت مالي بدون قيادة، تدخَّل تنظيم القاعدة، ولكن لم تكن المقاومة لدى الطوارق ناجحة بشكلٍ جيد، وعَقِبَ تنظيم القاعدة، قامت فرنسا وبردَّات فعلٍ تكاد تشبه الغزو وبمخططَّاتٍ من حلف الناتو بالسيطرة على مالي، ولم يتمكَّن الطوارق بالنجاح في حماية مناطقهم. وعدا عن الطوارق في مالي، فهم يعيشون أيضاً في بوركينا فاسو والنيجر وتشاد، أي أنَّ أراضي الشعب الأمازيغي في هذه المناطق من أفريقيا تمَّ احتلالها من تلك الدول.
بمثابَة خُلاصَة:
عانَى الشعبُ الأمازيغيّ والكردي للغاية من الدول الاحتلاليَّة، هم لم يعانوا فقط، وإنَّما جعلتهم تلك الآلام أقربَ إلى بعضهم البعض، وربمَّا قد لا تكون تلك النقاط بمثابة نقاط مشتركة بين الشعبين على إثر المعاناة من الغُزاة، لكن النقطة الجوهريَّة التي توحَّد المجتمعَين هي روح الحريَّة، وكما يقول أحد المثقّفين عن الطوارق: "عبرَ الطوارقُ الحدودَ المرسومةَ من الدول، امتطوا الإبلَ، وجمَّدوا تلك الحدود دونما قلقٍ"، ويعتبر الكردُ منذ مئات السنين الحدود الأربعة على أنَّها غير موجودة، يحافظونَ على علاقاتهم واحتياجاتهم الحياتيَّة والثقافيَّة والقوميّة ويستمرُّون فيها، وقد يكون الثمن في استمرار روح الحريَة تلك هو الموت، ولكنَّهم مستمرون في ذلك، وعلى الرغم من أنَّ الحدود الجغرافيَّة وحدود الدول تفصِلُ ما بين الكرد والأمازيغيين، إلَّا أنَهما يشتركان في روح الحريَّة. إنَّ القوى القمعيَّة والإمبرياليَّة تتخوَّف بشدَّة من هذه الميزة المشتركة للشعوب، ويبنون الاتفاقات الحربيَّة مسلّحين بهذه الأفكار، يُريقون دماء الشعوب ويستولون عليهم، وحينذاك، لِمَ لا يصغي الشعب الأمازيغي والكردي إلى الصوت التاريخيّ لـ كاهين وبيريتان: (بيريتان قائدة ومناضلة ومقاتلة لأجل حرية الشعب الكردي)، ولا يتبعونهما؟!
حرية شعوب العالم ممكنة عبر ذهنية الأمة الديمقراطية والكونفدرالية الديمقراطية،وسيكون الشعبين الأمازيغي والكردي رائدان لهذا الأمر،وسيوصلان الشعوب والعالم إلى مستقبلٍ حرً، ذا ينبغي وبشدَّة على الشعبين أن يقوما ببناء ذهنية الأمَّة الديمقراطية والكونفدرالية الديمقراطيَّة، ليكون بمقدورهما بناء حياةٍ مشتركة مع الشعوب المجاورة وخلق وحدة وطنيَّة، وقد تمكَّن الكرد في شمال وشرق سوريا فعل ذلك، وإن كانَ الأمر محدوداً، ولكن خلقت وحدة قوميَّة مع الشعوب المجاورة كالعرب والأرمن والآشوريين وسواهم ويتخذون أماكنهم في الكومينات والمجالس بأجمعها، لذا، فبالنسبةِ لكل الإثنيَّات يعتبر سيف المعرفة والحريّة فوق كل الأشياء الأخرى، ولا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعيَّن القيام به وتنفيذه. لذا من الضروري على الشعب الأمازيغي خلق وحدته الوطنية بروح الحريَّة وروح الأمازيغيَّة، فلتكن في أي دولةٍ، أو جغرافيا، أن يبني وحدته القوميَّة والوطنيَّة للأهداف ذاتها: حريَّة اللغة، الثقافة، التاريخ الأمازيغيّ، وألَّا يتعاون مع أي قوىً أخرى ضدَّ إخوته وإخوانه الأمازيغيِّين، ولأجل تحقيق ذلك، يجب إنشاء تنظيماته ومؤسساته الخاصَّة به، وأن يتحوِّل ذلك إلى نظامٍ، وذلك لأنَّ الشعب الأمازيغيّ مثله مثل الشعب الكرديّ تمَّ احتلاله من قبل عديد الدول، وتبعثر في كل أنحاء أفريقيا وأوروبا، فقد فُرِضَ عليه أن ينظم نفسه وفق ذهنيَّة الأمَّة الديمقراطية والكونفدراليَّة الديمقراطيَّة، وأن يناضل بروح حريَّة الشعوب ولأجل حياةٍ حرَّة إلى جانب الشعب العربي والشعوب الأخرى في التنظيمات والمؤسسات نفسها، وحينذاك، سيكون بمقدور الشعب الأمازيغيّ من أن يكون عنصراً رئيساً في كونفدراليَّة شعوب العالم، وستنتشر موجات الحريَّة في كل أرجاء العالم، وحينها ستنطلق من أفريقيا التي استعبدها الغُزاة الأوروبيِّون في القرن السادس عشر صرخةُ الحريَّة التي ستعمُّ وتنتشر في العالم بأكمله.
المصدر: أكاديميَّة عبد الله أوجلان للعلوم الاجتماعيَّة