خاص| تسلل تركيا إلى مالي يثير قلق القاهرة ويدفع مصر إلى تحرك عاجل

قالت مصادر دبلوماسية إن التحركات التركية الخطيرة في مالي ودول الساحل الأفريقي أثارت قلق القاهرة ودفعتها إلى تحرك عاجل لمواجهة التمدد التركي في تلك المنطقة التي تتمتع بإهتمام مصري متزايد.

على غرار التدخل التركي الأخير في جنوب القوقاز وليبيا وغيرها، تسعى أنقرة إلى مد نفوذها إلى مالي ومنطقة الساحل والصحراء التي تعاني من أزمات أمنية عدة في ظل التهديدات الإرهابية ومخاطر الفوضى والتقلبات السياسية التي تشهدها هذه المنطقة القريبة من ليبيا وشمال أفريقيا، حيث تمثل ساحة جديدة أمام تمدد تركيا، خاصة في ظل صراعها مع فرنسا صاحبة النفوذ التقليدي في تلك المنطقة حيث تقود فرنسا تكتل مجموعة الخمسة لمكافحة الارهاب في دول الساحل والصحراء التي تضم (موريتانيا ومالي والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو).

منذ إطاحة الرئيس المالي، لا تتوقف المزاعم حول دور تركيا في تدبير الإنقلاب من الأساس، حيث أثار تواصل تركيا السريع مع صانعي الانقلاب في مالي تساؤلات حول ما إذا كان التنافس المستمر بين تركيا وفرنسا قد لعب دورًا في الانقلاب العسكري المالي الذي أطاح بالرئيس المحاصر في البلاد في آب/ أغسطس الماضي والذي يوصف بأنه رجل فرنسا في باماكو.

وتتخذ تركيا وسائل عديدة لمد نفوذها إلى مالي وخاصة في ظل خطاب رئيس النظام التركي التحريضي ضد فرنسا التي وصف رئيسها في تركيا بأنه "معادي للإسلام" ويشن عدوانا على بلدان مسلمة مثل مالي، فيما يظهر أردوغان نفسه وكأنه مدافع عن "المسلمين". ويرى نظام أردوغان انه يمكن على المستوى العلني تنمية علاقات مع النظام المالي الجديد الذي يسيطر عليه الانقلابيون المناوئون للرئيس المخلوع المدعوم من باريس التي دخلت في خلافات حادة مع انقرة، كما يمكن من خلال الأدوار الخفية المرتبطة بهذا الخطاب التحريضي إيجاد موطئ قدم جديد لها في مالي وخزان للمرتزقة تحت مظلة الكراهية لفرنسا والقوى الغربية. ولا شك أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قدم خدمة مجانية إلى أردوغان عندما أطلق تصريحاته "الترامبية" الأخيرة نحو العالم الإسلامي، لم يتردد الرئيس التركي لحظة في استغلالها بكل طريقة ممكنة لتأكيد أجندته ومزاعمه.

وفي أحدث خطوة في التحركات التركية، وافق البرلمان التركي على إرسال بلاده لقوات للمشاركة في مهمات حفظ السلام الأممية لأول مرة في كل من مالي وأفريقيا الوسطى، وذلك بعد اسابيع حافلة بالتحركات نحو دول الساحل والصحراء وشمال أفريقيا، كان من بين أبرزها طلب أنقرة من الجزائر دعم سياستها الإقليمية في المنطقة وخاصة في مالي وليبيا وذلك خلال زيارة وزير الخارجية الجزائري صبري بوقادوم، إلى أنقرة ليعود حاملا "رسالة شفوية إلى الرئيس أردوغان من الرئيس عبد المجيد تبون" رئيس الجزائر، الذي تشهد بلاده جدلا واسعا حول العلاقات مع فرنسا، صاحبة الماضي الاستعماري في الجزائر الذي لا تتوقف آلة الدعاية التركية عن استدعاءه بمناسبة وغير مناسبة لإفساد العلاقات بين الجزائر وفرنسا من جانب، وفي محاولة لتبييض صفحة ماضي الاحتلال العثماني الملطخة هي الأخرى بدماء قبائل كاملة من بلدان شمال أفريقيا.

في اعقاب تلك الزيارة، جاءت تحركات وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو، الذي قام بأول زيارة رفيعة المستوى لمسؤول غير أفريقي إلى مالي منذ انقلاب آب/ أغسطس الماضي، بينما وصف سفراء تركيا في أفريقيا ما حدث من "إنقلاب عسكري" بأنه بداية "ربيع أفريقي" ما يؤكد ليس فقط تناقض السياسة التركية التي تزعم اتخاذها موقفا ثابتا يرفض "الإنقلابات العسكرية"، لكن أيضا يكشف عن مدى تعاظم الرهان التركي على ما حدث في مالي كفرصة لمواصلة التمدد في أفريقيا، فيما يرى مراقبون أن ذلك قد دفع أردوغان للقيام بزيارة جديدة إلى قطر من نوعية تلك الزيارات التي يقوم بها كلما أشعل حريقا إقليميا بحثا عن الدعم التمويلي من الدوحة التي كانت أيضا من أوائل الداعمين لإطاحة الرئيس القريب من باريس.

واعتبر تقرير لموقع "نورديك مونيتور" الاستقصائي السويدي أن زيارة جاويش أوغلو للعاصمة المالية باماكو في 9 سبتمبر/أيلول كشفت عن نية تركيا في توسيع نطاق نفوذها على العملية الانتقالية، ولضمان تشكيل حكومة إسلامية لما بعد الانقلاب في البلاد، بما يتماشى مع سياسة تركيا حول أفريقيا. وقال الموقع السويدي إن الزيارة التي يراها كثيرون بمثابة خطوة لإضفاء طابع الشرعية على الانقلاب العسكري، هي مؤشر على تفكير أنقرة في الانقلاب باعتباره فرصة جديدة، وأنها تتوقع "فراغا بالسلطة" في مالي.

السفير التركي في السنغال أحمد قواس، الذي وصف ما جرى في مالي على أنه بمثابة بداية لـ"الربيع الأفريقي"، سبق أن احتل منصب السفير التركي إلى تشاد في الفترة ما بين 2013 و2015، وفي فبراير/شباط من عام 2013 واجه انتقادات بعد إعلانه عبر "تويتر" أن القاعدة "ليست تنظيما إرهابيا"، متهما فرنسا بتضخيم التهديدات الإرهابية في مالي، في وقت بدأت فيه باريس تدخلا عسكريا في المنطقة لمواجهة التنظيمات الارهابية والمتمردين المتطرفين، حيث كان لافتا في ذلك الوقت معارضة تركيا لتعزيز الوجود الفرنسي رغبة منها في التمدد في تلك المنطقة بغير منافس، فيما كانت السلطة الإخوانية الحاكمة في مصر خلال هذا العام "2012-2013" تعلن على رفضها القاطع "للتدخل" الفرنسي على لسان رئيسها المعزول محمد مرسي، متجاهلة مخاطر التنظيمات الإرهابية في تلك المنطقة المؤثرة على دوائر الأمن القومي المصري.

ويرى الباحث المغربي سعيد الكحل المختص بشؤون الإسلام السياسي والتنظيمات المتطرفة والإرهاب، إن أردوغان ينفذ "إستراتيجية تركية خطيرة تقوم على الغزو الاقتصادي للدول الإفريقية وفي الوقت نفسه دعم التنظيمات الإرهابية لزعزعة أمن واستقرار الدول قصد الهيمنة عليها".

وقال الكحل في مقاله "أدوات التوغل التركي في أفريقيا" المنشور قبل أيام بشبكة "هسبريس" المغربية: "ولا تشذ دول الساحل والصحراء عن إستراتيجية التوغل التركية، حيث سارعت إلى توظيف علاقاتها مع أطراف مالية لتعزيز فرص التأثير على القرار السياسي وهندسة معالم مرحلة ما بعد الانقلاب العسكري في مالي. في هذا الإطار، تستغل تركيا علاقتها برجل الدين محمود ديكو للدفع بمطالب فتح حوار مع التنظيمات الإرهابية إلى التحقيق؛ حتى يكون لها دور في القرار السياسي. إن علاقة محمود ديكو قوية بتركيا أردوغان، إذ سبق له أن وفر، سنة 2013، قطعة أرض في باماكو أقامت عليها تركيا مسجدا على الطراز العثماني. ومما يزيد من تقوية الروابط بين تركيا وحمود ديكو أن هذا الأخير يطالب بإنهاء وجود القوات الفرنسية في مالي، الأمر الذي يخدم الأهداف التركية".

 

تحرك مصري

وفي وقت تتولى فيه القاهرة رئاسة مجلس الأمن والسلم الأفريقي المعني ليس فقط بالأوضاع الأمنية ولكن أيضا بظروف التغيير السياسي المفاجئ الذي يمكن أن تشهده البلدان الأفريقية مثل الثورات والانقلابات وغيرها، في أحدث تحرك مصري ينم عن اهتمام بالوضع في مالي، أعلنت القاهرة دعمها خطوة تشكيل الحكومة الانتقالية وتطلعها لنجاحها في تحقيق الأمن والاستقرار والسلام في مالي، وثقتها في قدرة الحكومة الانتقالية الحالية على استكمال مسيرة الانتقال الديمقراطي في البلاد بما يُحقق تطلعات الشعب المالي.

كما أعلن وزير الخارجية المصري سامح شكري خلال اتصال بنظيره المالي زيني مولدي يوم الثلاثاء، اعتزام مصر تقديم كافة أشكال المساندة لمالي خلال الفترة القادمة، وبما يُمهد لاستعادة مالي لوضعيتها داخل الاتحاد الأفريقي في أقرب فرصة ممكنة. كما أكد وزير الخارجية "على تطلع مصر لاستمرار تقديم الدعم لمالي لتجاوز التحديات الراهنة التي تواجهها، وبخاصة في مجالات مكافحة الإرهاب ومجابهة التنظيمات الإرهابية، وذلك من خلال الدورات التدريبية التي تقدمها مصر إلى دول منطقة الساحل فضلاً عن المشاركة المصرية الفاعلة في بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة هناك"، في تأكيد على أهمية المشاركة المصرية في تلك البعثة التي تتعرض لمخاطر شديدة خلال ممارسة عملها بحكم طبيعة التهديدات هناك.

وقد أعرب الوزير شكري عن "عزم مصر تعزيز أطر التعاون الثنائي القائمة خلال الفترة القادمة لاسيما في المجالات الأمنية والاقتصادية والاستثمارية، مؤكداً التزام مصر بمواصلة دورها القائم نحو تدريب الكوادر بدولة مالي لاستعادة الوضع الأمني في البلاد، خاصة وأن تحقيق الأمن والاستقرار هو السبيل نحو الوصول للتنمية المنشودة وجذب الاستثمارات، والوفاء بمتطلبات الشعب المالي الصديق"، بحسب بيان لوزارة الخارجية المصرية يوم الثلاثاء.

وقد سبق أن حذر مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة، التابع لدار الإفتاء المصرية، من الإستراتيجية التركية المعتمدة على إرسال الإرهابيين إلى الدول الإفريقية، خاصة دول شمال إفريقيا ومنطقة الساحل وغرب إفريقيا، بهدف التوسع والسيطرة على القارة السوداء؛ وذلك من خلال توسيع النشاط الإرهابي في المنطقة، وذلك وسط تقارير تستند إلى معلومات استخباراتية تؤكد إقامة تركيا لثلاثة معسكرات سرية جنوب ليبيا يتم فيها تجنيد مئات الإرهابيين من شمال إفريقيا وإفريقيا الوسطى وغربها، إضافة إلى جنوب الصحراء الكبرى وتدريبهم.

ويرى الدكتور أيمن شبانة أستاذ العلوم السياسية المتخصص في الشأن الأفريقي بجامعة القاهرة، إن الحضور المصري في مالي ومنطقة الساحل والصحراء كان سباقا على التحركات التركية الأخيرة، التي بالضرورة تمثل مصدرا للقلق بالنسبة للقاهرة، "ففي ظل التدخلات التركية في ليبيا والصومال وغيرها، من الضروري أن يثير أي تحرك تركي في أفريقيا قلق القاهرة، فمصر تدعم دول الساحل والصحراء في مكافحة الإرهاب وتمثل جهودها جزء لا يتجزأ من هذه المنظومة، وسبق أن استضافت عدة اجتماعات لوزراء دفاع ومسؤولين عسكريين رفيعي المستوى من دول مجموعة الساحل والصحراء في اجتماعات عديدة في مصر من أجل توثيق التعاون، لتتمكن مصر لاحقا من استضافة مركز مكافحة الإرهاب لدول الساحل والصحراء والقيام بدور كبير في هذا الصدد".

واستضافت مصر في كانون الأول ديسمبر 2018 فعاليات التدريب المشترك فى مجال مكافحة الإرهاب بين عناصر دول تجمع الساحل والصحراء، والذي نفذ لأول مرة في مصر بقاعدة محمد نجيب العسكرية، وذلك فى إطار اهتمام القيادة السياسية والقيادة العامة للقوات المسلحة بدعم العلاقات العسكرية مع الدول الإفريقية.

وقال شبانة إن بلاده لديها محددات عديدة للتحرك نحو دعم مالي خلال المرحلة الإنتقالية وخاصة في مكافحة الإرهاب والتطرف ونقل الخبرات الأمنية المصرية في مجال استعادة الوضع الأمني في البلاد، ومن بين تلك المحددات أهمية علاقات مصر بمالي ودول غرب أفريقيا، وتأثير الأوضاع الأمنية فيها على ليبيا الجارة الغربية لمصر، حيث تمثل الفوضى في تلك البلدان تهديدا خطيرا للأمن القومي المصري والليبي، كما أن مصر لديها إلتزام أفريقي في ظل ما تتولاه من مسؤولية في إطار الاتحاد الأفريقي، وفيما يتعلق بقضية مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء بوجه خاص، ولاسيما في ظل التعاون المصري الفرنسي في هذا الصدد.

دخول تركيا إلى مالي عسكريا من بوابة "قوات حفظ السلام" الأممية التي تصل إلى 13 ألف جندي بالفعل، لا يعني أنه تدخل شرعي لا ينبغي الإلتفات إليه والتحذير منه، إذ يعيد التذكير بوجودها العسكري في الصومال من نفس تلك البوابة، والذي تحول في العام 2017 إلى إفتتاح أكبر قاعدة عسكرية تركية بالخارج في البلد الواقع عند مدخل البحر الأحمر وطريق التجارة الدولية المتجهة نحو قناة السويس المصرية. كما أن التحركات التركية نحو مالي تعمقت خلال السنوات الأخيرة كجزء من استراتيجية أوسع نحو شمال وغرب أفريقيا حيث عديد من البلدان المسلمة، فقد افتتحت تركيا سفارتها في مالي في العاصمة باماكو في عام 2010، وزار أردوغان البلاد للمرة الأولى في عام 2018، وذلك بعد سنوات من تعزيز تركيا لنفوذها في مالي بعد الإنقلاب السابق عام 2012.

هل تتحرك السعودية لمواجهة إيران وتركيا؟

وفي ضوء ما يبدو من تلاقي للمصالح التركية والإيرانية نحو مزيد من التنسيق بين القوتين لإختراق شمال أفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء التي تتمتع فيها إيران بنفوذ قديم، قال وزير الدولة السعودي للشؤون الأفريقية، أحمد بن عبد العزيز القطان، إن رؤساء دول مجموعة الساحل، عبروا له عن مخاوفهم من تعاظم الدور السلبي الذي تلعبه إيران في المنطقة.

وأضاف الوزير الذي وصل العاصمة الموريتانية نواكشوط، اليوم الخميس، في إطار جولة له في منطقة الساحل، إن الدور السلبي لإيران لم يعد يقتصر على المنطقة العربية، بل امتد إلى أفريقيا، مشيرا إلى أن هناك محاولات كثيرة للتشيع في المنطقة الأفريقية، تقوم بها إيران.

وأشار الوزير السعودي، بعد لقائه بالرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني، الذي تتولى بلاده حاليا الرئاسة الدورية لمجموعة الساحل، إلى أن المملكة سترسل في القريب العاجل وفدا من الصندوق السعودي للتنمية لمراجعة المشاريع التي تمولها في موريتانيا، وستنظر في تمويل مشاريع جديدة إذا أمكن القيام بها.

وبدأ القطان بداية الأسبوع الجاري، جولة في دول مجموعة الساحل، أجرى خلالها مباحثات مع الرئيس الانتقالي المالي المؤقت باه انداو، تناولت الأوضاع في البلاد، والعلاقات بين مالي والسعودية، حيث أكد خلالها دعم المملكة لحكومة مالي في حربها على الإرهاب.

وزار قطان، الذي تولى منصب السفير السعودي في القاهرة لسنوات طويلة، قبل وصوله للمنصب الوزاري المتعلق بالعلاقات مع أفريقيا، موريتانيا العام 2018، لتمثيل السعودية في مؤتمر المانحين لمجموعة دول الساحل الخمس، والذي تعهدت فيه السعودية بتقديم 100 مليون يور*+9/و لدعم التنمية بدول الساحل.