بعد الإنقلاب العسكري الذي قام به كنعان إيفرين في 12 أيلول من العام 1981 في تركيا وشمال كردستان, وتحويل البلاد إلى معتقل كبير تمّ فيه انتهاك حقوق الإنسان بشكلٍ علني, تقوّضت علاقات الدولة التركية آنذاك مع أوروبا.
بالرغم من ذلك, صرّح زعيم الإنقلاب الفاشي, خلال مؤتمرٍ صحفي برفقة ضبّاط وجنرالات مجلس الأمن القومي. أنّ "العلاقات مع الدول الأوروبيّة ستستمرّ بشكلها الطبيعي" لأنّه كان يتلقّى الدعم من الدول الأوروبيّة وكان واثقاً من عدم إيقاف ذلك الدعم.
وفي الاجتماع الذي عقدته الدول الأوروبيّة في 16 أيلول 1981, تحدّث ممثّلو ألمانيا وبريطانيا عن "الديمقراطيّة" التي سيجلبها الإنقلابيّون إلى تركيا, فيما سعت دول مثل فرنسا, الدنمارك وهولندا إلى قطع العلاقات مع تركيا, حيث كانوا سابقاً يعارضون دعم الإنقلاب الذي قام به إيفرين مع مجموعة الجنرالات.
وبعد سلسلة نقاشات مطوّلة, لم يصدر مجلس الدول الأوروبيّة حينذاك أيّ موقف واضح من الإنقلاب, حيث لم يتمّ التنديد به من جهة, ومن جهةٍ أخرى, لم يتمّ توضيح فيما إذا سيستمرّ تقديم الدعم له أم لا. فقط تمّ الإعلان أنّ العلاقات مع أنقرة ستستمرّ بشكلها الطبيعي, دون أيّ مشاكل أو خلافات, حيث تمّت الإشارة في البيان الصادر عن الاجتماع إلى "الضمانات التي قدّمتها إدارة الإنقلاب" والمتعلّقة بإعادة الديمقراطيّة إلى تركيا في أقرب وقت, وأنّ حقوق الإنسان سيتمّ احترامها مجدّداً "لذا سيتمّ الحفاظ على كلّ الاتّفاقيات الموقّعة سابقاً مع أنقرة".
وكان البيان يعني أنّ الدول الأوروبيّة فتحت الطريق أمام إدارة الإنقلاب بممارسة الإرهاب في تركيا وشمال كردستان. وبالتالي يعني أنّ الدول الغربيّة أعطت الضوء الأخضر لممارسات ضدّ الإنسانيّة من اعتقال, تعذيب, ارتكاب مجازر والقتل الممنّهج في عموم البلاد.
تماماًكما يحدث الآن في تعامل البرلمان الأوروبي مع سياسات الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان, حيث تتمّ مجابهة هذا السياسات فقط بالبيانات, كذلك كان تعامل المجلس الأوروبي مع إدارة إنقلاب 12 أيلول. حيث كانت أوروبا تطرح مطالب مثل "يجب تحديد موعد الدخول في المرحلة الديمقراطيّة". "يجب تأمين حياة السياسيّين" والتأكيد على "ضرورة نشر الحرّية",كلّها كانت مجرد كلمات على ورق.
في ذلك الوقت, لم يوقف المجلس الأوروبي المساعدات الماليّة التي كان يقدّمها لتركيا, على الرغم من الإنقلاب العسكري حينها. على سبيل المثال, قرّر المجلس في حزيران من العام 1981 منح أنقرة 600 مليون ECU (العملة الأوروبيّة أنذاك) , كما تمّ الحفاظ على كلّ الاتّفاقيات التي تمّ توقيعها مع تركيا قبل الإنقلاب, حيث نُفّذت واحدة بواحدة بعد الإنقلاب. تمّ كلّ ذلك للحفاظ على النظام التركي من الانهيار, لأنّ الإنقلاب خلّف أزمةً اقتصاديّة كادت أن تودي بالبلاد.
لكن بعد الضغط الكبير الذي مارسه نوّاب البرلمان الأوروبي. تمّ إقرار قطع العلاقات مع تركيا في شهر آذار من العام 1982, كما تمّ وقف تقديم الدعم المالي لأنقرة. وهنا بدأت ألمانيا تمارس دوراً مختلفاً وبعيداً عن قرار المجلس الأوروبي. حيث كانت الحكومة في بون (العاصمة السابقة لألمانيا) على دراية تامّة بالإنقلاب, قبل أيّ دولة أخرى. وأجرى وزير الخارجيّة الألماني, هانز ديتريش في الخامس من شهر تشرين الثاني من العام 1981 زيارةً إلى أنقرة.
وانتقدت الصحف الألمانيّة كما الرأي العام العلاقات الجيّدة التي ربطت بين ألمانيا وحكومة إنقلاب 12 أيلول, لكنّ رغم ذلك, استمرّت تلك العلاقات وتطوّرت أكثر فأكثر وأخذت شكل صداقات بين مسؤولين ألمان وجنرالات الإنقلاب. بل تعدّى الأمر أنّ قدّمت دائرة المعلومات الألمانيّة الخاصّة (BND) معلومات لأنقرة عن سياسيّين أتراك, كانوا قد فرّوا من الإنقلاب والتجأوا إلى ألمانيا. وقد كشفت محكمة في برلين عن المعلومات التي تمّ تقديمها عن لاجئ سياسي من قبل الاستخبارات الألمانية حينذاك.
وعندما استلم الديمقراطيّين المسيحيّين السلطة في ألمانيا برئاسة المستشار هلموت كول, في العام 1982, والتي دامت 15 عاماً, ازدهرت العلاقات مع حكومة إنقلاب 12 أيلول أكثر, وبالشكل الذي تقوم به حكومة المستشارة أنغيلا ميركل الآن. وكانت الحكومة الألمانية وقتها تعمل جاهدة مع الدول الأوروبية وحلف الناتو على تحسين العلاقات مع تركيا, الأمر الذي أزعج أطرافاً كثيرة من المعارضة وأيضاً الرأي العام الألماني.
وفي جلسةٍ خاصّة للمجلس الفدرالي الألماني المنعقدة في 24 تشرين الأوّل من العام 1984, قال البرلماني عن حزب الخضر, ديرك شنايدر إنّ "المساعدات التي تقدّمها الحكومة الألمانيّة لأنقرة, في إطار حلف الناتو, يتمّ استخدامها ضدّ الشعب الكردي في تركيا. يجب أن نعلم بأنّ حقوق الإنسان يتمّ انتهاكها بشكل رسمي ومنهجي في تركيا".
وفي مواجهة النضال الذي بدأه حزب العمّال الكردستاني في شهر آب من العام 1984, اتّخذت الإدارة الألمانيّة موقفاً مسانداً للدولة التركيّة ومعادياً للنضال الكردي. حيث قدّمت الدعم العسكري والسياسي لحكومة الإنقلاب في مواجهة الشعب الكري الذي ناضل لأجل نيل حقوقه المشروعة. ومع زيارة المستشار هلموت كول لأنقرة في العام 1985, ومثلها زيارة رئيس الحكومة, ريتشارد فون فايتزاكه في العام 1986, تطوّرت العلاقات بين البلدين وأصبحت أكثر قوّة ومتانة.
ويعيد التاريخ نفسه مع الزيارة التي سيقوم بها أردوغان إلى برلين, والتحضيرات الكبيرة التي تقوم بها الحكومة الألمانيّة لاستقباله بالسجادة الحمراء, وسط معارضةٍ كبيرة من قبل سياسيّين, نشطاء, صحفيّين وغالبيّة الشعب الألماني. تمّ استقبل زعيم إنقلاب 12 أيلول, كنعان إيفرين في خريف العام 1988, حيث نظّم ديمقراطيّون, يساريّون, جمعيّات كردستانيّة وتركيّة معارضة مظاهرات معارضة لتلك الزيارة.
بدورها, هاجمت الشرطة الألمانيّة تلك المظاهرات, واعتقلت العشرات من منظميّها, ومزّقت اللافتات المكتوب عليها عبارات ضدّ "إيفرين", ورغم كلّ تلك الاحتجاجات, تمّ استقبال زعيم الإنقلاب التركي في عاصمة ألمانيا الغربيّة من قبل رئيس الوزراء الألماني ريتشارد فون فايتزاكه وعلى السجادة الحمراء, وخلال محاولته لإلقاء التحيّة على عنصريّين أتراك مساندين له أمام بلديّة مدينة بون, واجه كنعان إيفرين معارضين له يهتفون بعبارة "إلى الجحيم أيّها الفاشي".
وما كان يدعو للاستغراب وقتها, أنّ الحكومة الألمانيّة قلّدت كنعان إيفرين وسام شرف, في الوقت الذي رماه متظاهرون بالبيض, وقد اعتقلت الشرطة الألمانية العشرات ممن رموا البيض عليه وعاملتهم بعنف شديد.
واستمرّت العلاقات بين ألمانيا وحكومة الإنقلاب بالتطوّر, خاصّة بعد زيارة إيفرين للقصر الحكومي واستقباله من قبل هلموت كول, الذي التقط معه صوراً تذكاريّة, ووقّع الطرفان على اتّفاقيات تجاريّة جديدة.
ونشطت بعدها الاستخبارات التركيّة وبدأت العمل على الأراضي الألمانيّة, حيث كشف برنامج تلفزيوني بثّته قناة "ARD" باسم "بانوراما" في 3 نيسان من العام 1990, عن 30 عميلاً للاستخبارات التركيّة ينفّذون نشاطات مخابراتيّة تحت مظلّة 13 قنصليّة وسفارة أنقرة في بون, وتحت مسمّى العمل الدبلوماسي.
وقد طالب مسؤولون ألمان بإخراج 15 ممن تمّ كشفهم كعملاء للاستخبارات التركيّة من الأراضي الألمانيّة, لكنّ أنقرة سحب 4 منهم فقط. كما تمكّنت من توسبع قاعدة عمل استخباراتها التي أنشأتها في العام 1980, وباءت محاولات مدّعين من مدينتي شتوتغارت وهامبورغ بمقاضاة 15 عميلاً تركيّاً بالفشل, بعد سحب ملفّاتهم من المحاكم, تماماً كما تقوم به الآن الحكومة الألمانيّة من التستّر على نشاطات الاستخبارات التركيّة على أراضيها.