رغم افتقار الشعب الفلسطيني للوحدة إلا أن ذلك لم يكن عائقاً أمام تنظيم نفسه
على الرغم من افتقار الشعب الفلسطيني للوحدة السياسية والاقتصادية إلا أن ذلك لم يكن عائقاً أمام تنظيمه لنفسه وبناء مؤسساته المختلفة، حتى وصفه المؤرخ الفلسطيني سليم المبيض بأنه من أكثر الشعوب العربية اندماجاً وتنظيماً لبيته
غزة
anf
الأحد, ٢٧ سبتمبر ٢٠١٥, ١٢:٠٣
على الرغم من افتقار الشعب الفلسطيني للوحدة السياسية والاقتصادية إلا أن ذلك لم يكن عائقاً أمام تنظيمه لنفسه وبناء مؤسساته المختلفة، حتى وصفه المؤرخ الفلسطيني سليم المبيض بأنه من أكثر الشعوب العربية اندماجاً وتنظيماً لبيته رغم الهجمات العديدة التي تعرض لها.
حيث تعرض الشعب الفلسطيني منذ بداية القرن العشرين للاحتلال البريطاني الذي ساعد اليهود على الهجرة إلى فلسطين، وبدأت بعد ذلك سلسلة هجمات الإسرائيليين التي شملت جميع النواحي، ولكن الشعب الفلسطيني لم يبقى خائر القوى بوجه تلك السياسات فلجأ لتنظيم نفسه في مختلف المجالات، وشكل المؤسسات، الاتحادات، الجمعيات الشبابية والطوعية والتي ظهر دور تنظيمها في حرب 2014 وما بعدها أيضاً.
وتبنت إنجلترا منذ بداية القرن العشرين سياسة إيجاد كيان يهودي سياسي في فلسطين وتوجت سياستها هذه بوعد بلفور عام 1916، وسقطت فلسطين في عام 1917، بيد الجيش الإنجليزي، والذي سمح للهجرة اليهودية إلى فلسطين، وفي 14 أيار/مايو 1948 انسحبت بريطانيا من فلسطين، وأعلنت اليهود في نفس اليوم إعلان دولة إسرائيل في المناطق الخاضعة لسيطرتهم، ومنذ ذلك العام الذي سمي عام النكبة بدأت معاناة الفلسطينيين من السياسيات الممنهجة لإسرائيل، ولم تستطع الدول العربية حماية القضية الفلسطينية، واستمر ذلك حتى عام 1961 حينها أدرك الفلسطينيون أن أحداً لن يستطيع حمايتهم، فبدأت مرحلة جديدة في حياة الفلسطينيين للقضاء على التشتت الذي عاشوه في السنوات السابقة.
ومن هنا بدأ الفلسطينيون يطبقون مفهوم التنظيم الداخلي للمجتمع وكيفية التأقلم والاستمرار في العمل والكفاح على أرض الواقع على الرغم من الصعوبات والهجمات التي كانوا يتعرضون لها من قبل الإسرائيليين.
وأحدثت هذه الهجمات العديد من التحولات في المجتمع الفلسطيني اجتماعياً، ثقافياً وسياسياً، وأدت إلى ظهور كوادر شبابية عملت على ترسيخ مفهوم الهوية والترسيخ الفكري لفلسطين تنظيم المجتمع والحرص على التعليم عبر حركات فكرية وطنية انطلقت من خلال جمعيات سرية بعهد ما بعد النكبة.
وفي هذا يقول المؤرخ الفلسطيني سليم المبيض إن الشعب الفلسطيني عُرف منذ القدم بافتقاره للوحدة السياسية والاقتصادية ولكن هذا لا يلغي وحدة وتماسك الشعب داخلياً لامتلاكه بنية اجتماعية متينة قبيل النكبة وما زالت راسخة حتى اليوم الراهن.
وأضاف المبيض “الجميع يعلم أن الشعب الفلسطيني تعرض لنكبة واتفاق بريطاني وصهيوني لتشتيت الشعب وطمس فكره وهويته”، ولكن الشعب الفلسطيني هو من أكثر الشعوب العربية اندماجاً مع الشعوب الأخرى وتنظيماً لبيته.
وبعد كل ما تعرض له الشعب الفلسطيني، بدأ بالتجمع والعمل على ترتيب شؤون بيته والتمايز في الفكر لإعادة إحياء المجتمع وتم الاتفاق على تكوين منظمة تجمع تحت غطاؤها الفلسطينيين وأطلق عليها “منظمة التحرير الفلسطينية”.
وتم إنشاء العديد من الدوائر داخل إطار المنظمة وأهمها دائرة الشؤون الاجتماعية التي تعمل على تنسيق أعمال المجتمع وذوي احتياجات الخاصة وتوزيع المهام الاجتماعية للمواطنين في حالات الأزمات.
ودائرة التعليم التي كان لها الاهتمام الأكبر بصياغة مواد تعليمية يحفظ بداخلها الهوية الفلسطينية وتدريسها للطلاب بالمدارس وقد واجهت هذه الدائرة العديد من الصعوبات والعقبات من قبل الإسرائيليين.
وأدى تزايد الاهتمام الداخلي للبيت الفلسطيني بالتعليم إلى وصول الطلاب للمرحلة الثانوية بدافع الخروج وإكمال دراستهم الجامعية في الخارج لكسب المعرفة والوعي ونقلها إلى المجتمع الفلسطيني، وعمل الطلاب على تنظيم أنفسهم داخل الجامعات لتكوين اطر طلابية تهدف إلى تدوين ونقل المعارف للشعب الفلسطيني لتكوين نظام خاص به لترتيب مهام المجتمع.
وعملت المنظمة على إنشاء العديد من الجمعيات والمؤسسات الاجتماعية الهادفة وقدمت خدمات اجتماعية يومية ورعاية اجتماعية وزيادة الوعي الفكري وترتيب مهام المواطنين.
وكانت تسعى تلك الجمعيات إلى تلبية احتياجات الحياة للمواطنين كالرعاية الصحية والتأهيل وكيفية توفير المواد الأساسية بأقل التكاليف والتعليم.
وأهم تلك الجمعيات ومازالت تعمل لهذا اليوم جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني وتأسست عام 1968 وعملت على تقديم الخدمات الصحية للمواطنين والعمل على تدريب العديد من الكوادر الشبابية القادرة على خدمة المجتمع.
وأسس الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات مؤسسة صامد والتي تهدف لتشغيل الفلسطينيين وبدأت عملها بمصنع خياطة ليزداد العمل حتى وصول عددها إلى 26 مصنعاً وكان يشرف عليها مواطنون أخذوا على عاتقهم تسيير مهام المؤسسة.
واجتمع الكتاب والمثقفون والمؤرخون والأدباء لإنشاء مراكز ثقافية تحتضن الفكر والتراث والحضارة الفلسطينية وذلك بجهود ذاتية فظهرت العديد التجمعات منها “جمعية المسرح والفن الشعبي، مركز الأبحاث، الفنون الثقافية الوطنية”.
وقال المؤرخ الفلسطيني سليم المبيض إن حركة الشارع الفلسطيني أتت مخالفة لكل التوقعات المحتملة على الساحة الفلسطينية سواء من حيث اتساعها أو من حيث قدرتها الفائقة على الاستمرار وسط أقصى الظروف ومن حيث عبقريتها الذاتية في تسيير أمورها وإدارة شؤونها بالأساليب الذاتية والآليات الداخلية التي يولدها الشارع الفلسطيني ويستثمرها طبيعة الحركة “ديناميكيتها المتواصلة” في ظل بداية الحراك الشبابي عام 1970 حتى عام 2003 بانتهاء الانتفاضة الأولى.
وتبع ذلك توسع في أنشطة الجماعات النسائية التي تمثل اتجاهات سياسية واجتماعية مختلفة، وركزت اهتمامها على القضايا الاجتماعية وخصوصاً ما يتصل منها بالمرأة كافتتاح عيادات الأمومة والطفولة ورياض الأطفال والتربية الصحية وبرامج محو الأمية، وإنجازها الأهم كان في تنظيم عدة آلاف من العناصر النسائية النشيطة في جميع أرجاء المناطق المحتلة ضمن إطار تنظيمي ديمقراطي تحرري هادف.
وفي سنة 1979، تم تأليف أولى لجان الخدمات الطبية الطوعية على يد أطباء تقدميين شباب واختصاصيين في مجال الصحة. وكان الهدف المعلن لهذه الجماعة هو خدمة القرى ومخيمات اللاجئين. لكن التأثير الاجتماعي والسياسي كان له تأثير في تنظيم عدة مئات من العاملين في المجالات الصحية وتنظيمهم حول برنامج متكامل للعون الصحي التطوعي.
وجاءت هذه المبادرة في أصالتها ودقة تجاوبها مع الحاجات المحلية لتكون بدايات لنظام صحي بديل من البرامج التي تشرف السلطات عليها. ومع أن العمل التطوعي تنامى ببطء في البداية لكنه تسارع في النمو خلال أواسط الثمانينات وأواخرها في ظل اشتعال انتفاضة الأقصى, فأصبحت الشبكات المؤسساتية للعمل الصحي المدني تعم مختلف مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة.
وتبع ذلك تأليف لجان طوعية مشابهة في مجال الزراعة, بدأت تعمل من أجل سد الحاجة الناجمة عن تخفيض الخدمات الرسمية في هذا القطاع الحيوي فنشطت طلبة الجامعات وغيرهم في أوج المواسم الزراعية وفي إجراء التجارب لتطوير المحاصيل وأصناف الثروة الحيوانية الجديدة وتدجينها، ومن خلال هذه النشاطات تركز العمل على تشجيع الإنتاج الغذائي ولو على نطاق محدود في البداية مع التشديد على ضرورة تغطية الحاجات الأساسية بالدرجة الأولى.
ومع النمو المتصارع للمنظمات الطوعية غير الرسمية تحت قيادات شابة ومهنية,طرأت تحولات مهمة كذلك في الجمعيات الخيرية التقليدية من حيث بنيتها وتوجهاتها. فقد طورت هذه الجمعيات عملها خارج نطاقه التقليدي ليشمل برامج التعليم والتوعية والتدريب والتشغيل للنساء، كما شمل فيما بعد المشاريع التي تدر الدخل والمرتكزة على إنتاج الغذاء والأعمال اليدوية. وفي أواسط الثمانينات كانت هذه البرامج تُشغل بضعة آلاف من النساء في جمعيات ولجان محلية منتشرة في قرى الضفة والقطاع.
إن المجتمع المدني الذي نما في المناطق المحتلة كان في الأساس وليدة الحاجة، إذ كان في جوهره أداة للدفاع عن النفس من جانب الفلسطينيين وتعبيراً عن عزمهم على عدم الاستسلام لنظام قمعي فرضته إسرائيل عليهم.
وكان هذا المجتمع المدني هو الذي وفر للشعب الفلسطيني في الداخل شبكة الأمان الاجتماعية خلال مسيرته الحياتية منذ قرابة 60 عام، الأمر الذي أتاح للفلسطينيين في المناطق المحتلة إمكانية تقليص اعتمادهم على الواردات الإسرائيلية بنسبة نحو خمسين في المائة.
ومع مرور الأعوام ووصولاً لعام 2008 اشتعل فتيل الحرب من الجانب الإسرائيلي على قطاع غزة وكان مفاجئاً فسقط العديد من القتلى بالطرقات وأعلنت حالة الطوارئ في القطاع فأسرع كل المهنيين بالجلوس بمكان عملهم لكي يقدم ما لديه لضبط الأوضاع.
أما المواطنون في قطاع غزة وخاصة في حي تل الهوا الذي شهد الدمار الأكبر خلال الحرب، حاول الأهالي في جميع الأحياء المجاورة الدخول إليه وتقديم المساعدات رغم رؤيتهم الموت أمام أعينهم ومنهم من قتل جراء تقديمه الخدمة لسكان الحي.
وقدم المواطنون نموذجاً من ناحية التنظيم في البيت الفلسطيني وخاصة في ظل الأوضاع الصعبة وندرة الإمكانيات اللازمة وهذا ما شوهد في حرب 2012 أيضاً وكذلك في حرب 2014 التي كانت صاحبة التجربة الأكثر صعوبة على كاهل المواطنين في قطاع غزة.
في تلك الحرب التي استمرت 51 يوماً متتالياً والتي لم يتوقع أحد أن يخرج منها وهو على قيد الحياة، ظهرت ثمرة السنوات السابقة من التنظيم، حيث عمل المواطنون على ما اعتادوا عليه من العمل بشكل جماعي بدافع حماية أنفسهم والحفاظ على حياتهم.
وبدأ كل مواطن يجمع أساسيات الحياة من دقيق “الطحين” ومستلزمات أخرى وخصوصاً في حالة نقص الغذاء والأدوية ونقص الموارد الصحية، فأخرج معظم الأهالي البضائع المتواجدة في المخازن ولم يتلاعبوا بالأسعار بل كان كل منهم يقوم بتقديم السلع والأغذية لأكبر قدر ممكن ولكن ما زاد الأمور سواء تدمير الاحتلال بأول أيام الحرب الخطوط الناقلة للمياه للمواطنين.
كما قام المواطنون الماكثين بعيداً عن أماكن القصف بإيواء أعداد كبيرة من الأهالي بدافع إبعادهم عن الخطر الذي كان يهددهم لو تواجدوا في منازلهم المعرضة للخطر المحتم، حيث تم تأمين كافة المتطلبات الحياتية داخل المنزل العائلي الذي كان يحتضن ما يتجاوز 50 فرداً.
وكان العمل الذي قام به المواطن عبد الرحيم ياسين صاحب أكبر محطة تحليه مياه بقطاع غزة كبيراً جداً، إذ عمل على إيصال المياه إلى الأهالي طيلة الأيام، حيث قال ياسين لوكالة ألانباء عن تلك الأيام والتنظيم الذي كان موجوداً “قمت بتشغيل جميع عربات المحطة واستعنت ببعض العربات التابعة لمصلحة مياه بلديات الساحل وكنت على استعداد إن أتحمل تكاليف العربات من محروقات ولكن المصلحة زودتني بالمحروقات وذلك بهدف إيصال المياه لأكبر قدر ممكن للمواطنين وبالفعل عملنا طيلة أيام الحرب وكنت أخرج أنا أيضاً على أحد العربات وقد أصيب أحد العاملين على العربات وفي اليوم الـ 32 للحرب أخبرت العاملين إن كانوا يريدون الاستمرار بالعمل أم لا ؟ فكان جوابهم جميعا نعم يريدون الاستمرار لأنهم لو توقفوا من سينقذ أطفالهم ويسقيهم”.
وظهرت في أيام الحرب الأخيرة العديد من النشاطات والأعمال التي دلت على المجهود الذي يقوم به الشعب الفلسطيني من تكافل وتعاون من أجل خدمة الوطن وحماية المواطن حيث قامت كوادر شبابية طوعية بالعمل في العديد من القطاعات المهنية، فمنهم تطوع للعمل مع الكادر الصحي والعمل مع المسعفين والنزول للطرقات لإسعاف المواطنين ولم يكونوا يتقيدون بمواعيد عمل بل كانوا يعملون ما دام هناك قصف وجرحى.
الشاب محمد سمير وهو خريج فن عمليات عن مشاركته حينها في العمليات الإسعافية قائلاً “تطوعت للعمل أثناء الحرب بمحض إرادتي لأنني لا استطيع الجلوس والنظر إلى أبناء بلادي يحتاجون المساعدة ولا أقدمها”، وأشار أنه كان سعيداً جداً بتقديم الخدمة للمواطنين رغم الخطر المحدق بحياته.
وكمثال عن عمل المؤسسات الشبابية في تلك الظروف الصعبة، مؤسسة فتيان الغد التي خرج جميع كادرها المكون من 20 شاباً و15 شابة للعمل بشكل تطوعي طيلة 47 يوماً خلال الحرب، حيث عمل أفراد المؤسسة على توزيع الأطعمة على الأهالي وتأمين المأوى ومستلزمات المعيشة للمواطنين، وكانوا يزورون جميع العوائل للتأكد من أن كل عائلة حصلت على ما يلزمها، ولم يكن العمل مقتصراً في هذا المجال على هذه المجموعة فقط بل أن العديد من المجموعات كانت تعمل معاً تحت شعار “إنقاد بلادنا واجب وطني”.
ولم يستطيع رجل الأعمال الفلسطيني ثابت الوادية النظر عبر التلفاز لأبناء شعبه وهو يبقى في الشوارع بدون مأوى، فقرر النزول للشارع بنفسه والتجول بالطرقات لكي يرى ما يحتاجه أبناء شعبه وبالفعل قام بالتواصل بعدد من الشباب العاملين في شركته بدافع توزيع 5000 طرد غذاء على المواطنين، وقام بالتواصل مع العديد من الجمعيات في الضفة الغربية والخليل لتقديم المساعدة لأبناء شعبه وبالفعل تمكن من تحصيل المساعدات وأشرف هو بنفسه على توزيعها.
وكان لتجمع الشخصيات الفلسطينية المستقلة برئاسة الدكتور ياسر الوادية عضو الإطار القيادي لمنظمة التحرير الفلسطينية دور في تخفيف المعاناة عن الأسر التي تعرض أبناءهم لإصابات خطيرة ولم يتمكنوا من السفر لتلقي العلاج وخاصة في ظل الحرب والانقسام السياسي الفلسطيني.
وحاول جاهداً ومعه أعضاء التجمع أن يبذلوا ما لديهم في ظل استمرار الحرب بالتواصل مع الجانب المصري لفتح معبر رفح لإخراج المصابين لتلقي العلاج وحصل على ما أراد حيث تم نقل الجرحى ومعالجتهم وبدأ بالمرحلة الأخرى بتوفير أكبر قدر ممكن من الأدوية اللازمة للمستشفيات وتم التواصل مع العديد من المؤسسات الدولية وتم تحويل الأدوية وقدم المواطنين كل طاقتهم لإيصال الأدوية إلى المستشفيات والعيادات التي كان ينقل إليها الجرحى.
ولم تقتل ضراوة الحرب على غزة، روح التضامن بين الفلسطينيين بل عززتها فاستمر المواطنون خاصة الكادر الشبابي بالتواصل والترتيب الجيد لأعمالهم فيما بعد الحرب أيضاً، حيث نشطت العديد من المجموعات الشبابية المتطوعة وابتكرت أساليب ترفيهية لرسم البسمة على وجوه الأطفال الذين تعرضوا لأكبر صدمات بحياتهم وظهرت العديد من الكوادر تحت مسميات مجموعات مختلفة.
واستمرت الجهود الشبابية المختلفة ولكن تميز عدد من الشباب بتحويل جدران المباني التي تهدمت خلال الحرب إلى لوحات فنية، رسمتها ريشة عدد من الفنانين الفلسطينيين إحياء للذكرى الـ 67 للنكبة.
ومن بينها صورة الفنانة التشكيلية براء العاوور 23 عاماً والتي هي عبارة عن رسم رجل يده اليمنى على شكل مفتاح الذي يعتبر رمز العودة بينما باقي جسد الصورة إنسان ويده ليسرى كأنها أغصان شجرة الزيتون التي توصف بقوة جذورها.
وعلى فتحة كبيرة في أحد الجدران ناتجة عن صاروخ إسرائيلي اخترقه، انشغل الفنان جميل أرقيق، بعمل مجسم لطفل صغير يرتدي قميصاً أبيض اللون، وسروالاً وردياً، يحمل في يده وردة بيضاء ويحاول هذا الطفل الهروب من الموت والعيش بسلام وحب وأمل، بحسب ما وصف اِرقيّق 50 عامًا رسمه ذاك.
وقام فنانين من غزة بإعداد سبع هياكل تمثيلية تجسد تكامل العمل الأسري داخل المجتمع الفلسطيني، حيث يؤدي كل فرد من المجتمع عمله بشكل كامل ويساعد غيره بحسب ما قاله الفنان المشرف على العمل الدكتور إياد صباح.
وأضاف صباح “خطوت بعمل هذا الفن المختلف بهدف إيصال مفهوم التماسك والتنظيم الأسري داخل المجتمع الفلسطيني وخاصة في ظل الأوقات الصعبة”.
كما قام 15 فنانًا بتلوين جدران المنازل المهدمة، ورسموا 9 لوحات جدارية توثق ما تعرض له الفلسطينيون خلال حرب 1948، وحتى حرب عام 2014، وقال في ذلك عضو مجلس إدارة اتحاد الإذاعة والتلفزيون صالح المصري “هي رسالة صمود وتحدي وأن تحرير أراضينا قد اقترب”.
واستطاع المهنيون في مجال الحدادة والحديد إنقاذ أرواح آلاف المواطنين الذين تهدمت بيوتهم بفعل القصف بإعداد ما عرف بالكرفانات وتحت إشراف وزارة الإشغال والسكان ووزارة الاقتصاد الوطني.
وبالفعل تمكن هؤلاء المهنيين انجاز تلك الكرفانات وذلك على الرغم على عدم توفر العديد من المستلزمات اللازمة لإتمام العمل.
ومن جانب آخر رسم عدد من الفنانين الفلسطينيين على جدران البيوت الحديدية رسوماً بألوان تنير ذلك الحديد القاتم وقسوة العيش فيه، حيث غيرت تلك الرسومات ألوان جدران بيوتهم الحديدية بألوان زاهية ورسومات طفولية ضاحكة، حاولت إخفاء اللون القاتم لتلك الكرفانات الحديدية، ذات الوقع الصعب على نفوس المواطنين الذين فقدوا منازلهم خلال الحرب على غزة، الذي دمر خلال 51 يوماً من القصف المتواصل، نحو 100 ألف منزل بين كلي وجزئي.
يقول أحد الفنانين المشاركين في الرسم على جدران الكرفانات حازم الزمر “إنّ الفكرة جاءت للتخفيف من الحالة النفسية الصعبة التي يمر بها أصحاب البيوت الحديدية وذووهم وأطفالهم، خصوصاً أنّ لونها الأبيض من الداخل يشبه لون المستشفيات والأكفان، ولا حياة فيها”.
ويوضح الزمر أنّ الفكرة لاقت ترحيباً من أهالي الكرفانات الذين شاركوا الفنانين في الرسم والتلوين، مشيراً إلى أنّ المكان أصبح حيوياً مليئاً بالألوان، والأطفال أعجبوا كثيراً بالرسومات التي أبعدتهم قليلاً عن التفكير في واقعهم البائس، في ظل البرد الشديد وألم العيش فيها.
و لعبت كوادر شبابية أخرى في مجال التعليم وطالبت الجمعيات الثقافية من وزارة التربية والتعليم منح أسبوعين ترفيهيين للطلاب من أجل العمل على تفريغ الانفعالات النفسية لدى الأطفال وقدمت تلك الجمعيات كل ما لديها من طاقة وعملت بشكل مشترك بالتعاون مع كادر مؤهل من المعلمين لتنظيم هؤلاء الأسبوعين.
وتفاعلت تلك الجمعيات بكادرها الشبابي الذي حاول جاهداً رسم الابتسامة على وجه الأطفال تارة باللعب والتهريج وتارة أخرى بالرسم والدردشة بدافع تفريغ ما في أنفسهم رغم صعوبة الأوضاع.
حتى وفي المجال الزراعي لم يتوقف الشعب عن زراعة الأرض، وكأمثلة على ذلك المزارع علي الأفرنجي 71 عاماً الذي يمتلك قطعة من الأرض تبلغ مساحتها 76 دونماً زرعها بأشجار الزيتون بعد الهجمات الإسرائيلية عام 2009 ولكنها تعرضت في هجمات عام 2014 أيضاً للدمار، ولكنه قام بزراعتها من جديد، وقال الأفرنجي “لم أتوقف على النظر إلى أرضي وهي خالية من الأشجار بل زرعتها من جديد، وسأبذل قصارى جهدي كي اعتني بتلك الأشجار التي أشاهد بلادي فيها”.
ويمكن القول إن الشعب الفلسطيني اقتدى برئيسه الراحل ياسر عرفات وطبق كلمته الخالدة في حياته بأن “فلسطين لن تكون إلا للفلسطينيين ولن أتخلى عنها”، واقتدوا بدخوله لمؤتمر الأمم المتحدة للمطالبة بدولة فلسطين وهو يمسك غصن الزيتون الذي هو عنوان التماسك وعدم التخلي عن الوطن وعن أبناء الوطن.