في غزة، مهن على حافة الاندثار

مهن وحرف توارثها العائلات في قطاع غزة عبر أجيال، إلا أن هذه المهن باتت على حافة الاندثار، وبات العاملون في مجالها يعيدون إلى أذهانهم ذكريات ازدهار المهنة وكيف كانوا يؤمنون المواد الأولية التي تدخل في الصناعة.

 مهن وحرف توارثها العائلات في قطاع غزة عبر أجيال، إلا أن هذه المهن باتت على حافة الاندثار، وبات العاملون في مجالها يعيدون إلى أذهانهم ذكريات ازدهار المهنة وكيف كانوا يؤمنون المواد الأولية التي تدخل في الصناعة.

ومهنة صناعة السجاد عبر النول اليدوي، هي مهنة قديمة عرفتها غزة، وكانت 4 عوائل تعمل بها في بداية القرن الماضي، ومع سهولة الحصول على المواد الداخلة في الصناعة ازداد عدد العاملين في هذه المهنة لتصل إلى 100 عائلة، ومع تقدم الآلات وانتشار السجاد الصناعي باتت هذه المهنة معرضة للاندثار.

ففي قطاع غزة يجلس الحاج عوني الصواف الذي يزيد عمره عن 60 سنة، في مصنعه المتواضع لصناعة البسط والسجاد اليدوي المصنوع بالنول الخشبي، والذي يعمل فيه منذ حوالي 50 عاماً مع أفراد عائلته، وتحدث لنا عن المراحل التي مرت بها هذه المهنة في قطاع غزة.

وأشار الحاج عوني الصواف أن 4 عائلات من غزة فقط كانت تمارس هذه المهنة في البداية وكانت تتوارثها عبر الأجيال، فجميع أفراد العائلة كانوا يعملون في هذه المهنة، في ورشات أشبه بالمعامل.

وهذه الورشات كانت تستورد صوف الأغنام، شعر الماعز ووبر الجمال من مصر حتى عام 1967 حيث لم تكن هناك ضرائب مفروضة على إدخال الصوف. 

وبعد وصول الصوف إلى غزة كانوا يتوجهون به إلى ماكينة الكِرداشه لتقوم بعمله كشعر، ثم يذهبون به إلى الغزالات في جنوب قطاع غزة لتحوله إلى خيوط طويلة، وبعدها إلى الصَباغ ليصبغه بألوان يريدها صاحبها.

وبعد الانتهاء من عملية الصبغ كان أصحاب الخيطان يتوجهون بها صوب البحر لأن المياه المالحة تساعد على تثبيت اللون كما أكده الحاج عوني الصواف وقال “بعد ان نستخرجها من مياه البحر كنا نتوجه بها مكان العمل ونركبها على النول الخشبي للبدء بصناعة السجاد”.

وأوضح الصواف أنه ما بعد عام 1967 بدأت مرحلة جديدة لهذه المهنة حيث توقف استيراد الصوف من مصر، وأصبح الصوف يدخل القطاع عن طريق إسرائيل على شكل خيوط مغزولة ومصبوغة وجاهزة لا تحتاج إلى المرور بالمراحل السابقة وهذا ما رفع من عدد ممارسي هذه المهنة إلى أكثر من 100 عائلة تعمل في هذا المجال وتملك آلاف العمال، بعدما كان الأمر مقتصراً لسنوات طويلة على أربع عائلات في غزة فقط.

ومع تقدم الصناعة وانتشار الآلات الحديثة، بات السجاد متوفراً في الأسواق وبأسعار مختلفة بحسب رغبة المستهلكين، ما أدى إلى قلة طلب الأهالي على المنتجات اليدوية حتى وصلت إلى مستوى لم يعد أحد من الأهالي يرغب بها، وبات العاملون في هذه المهنة شيئاً فشيئاً يتركونها، حتى انخفض عدد العاملين في هذه المهنة إلى 3 عوائل فقط في قطاع غزة.

ويقول الحاج عوني الصواف وعلامات الحسرة على وجهه “الآن لا أحد يستخدم هذا السجاد والبُسط، حيث تَوجه الناس للسجاد الصناعي والمستورد رغم جمال مصنوعاتنا ودقة تفاصيلها وروعة ألوانها، وأشعر بمتعة رهيبة عندما أدخل إلى المسجد المجاور لنا وأجد السجاد الذي صنعته قبل 50 عاماً ما زال جميلاً حتى اليوم وقوياً ويُستخدم”.

وعلى الرغم من مشارفة هذه المهنة على الاندثار والحصار الخانق الذي يكاد يقضى على مئات المهن والحرف في قطاع غزة ما زال الصواف يمارس مهنته بشغف وانتظام ويقول “سأظل أمارسها حتى أموت فهذه مهنتي منذ طفولتي لا أستطيع التوقف عنها كما أنني أعتبرها جزءا من التراث الفلسطيني ولا أريده أن يتوقف بشكل نهائي”. 

ولكنه يرفض توريث هذه المهنة التي تعلمها من والده، إلى أبناءه، فقد دفعهم لإكمال دراستهم الجامعية والبحث عن عمل، فعلى حد وصفه أن هذه المهنة لن تأتي لهم بقوت يومهم كما أنها مهنة شاقة ولا أحد يدعمها حالياً.

وأشار الصواف أنه لو كانت هناك رعاية من قبل الحكومتين في الضفة الغربية وقطاع غزة لكان الوضع مختلفاً.

وما يساعد الحاج عوني الصواف في تأمين بعض الرزق له هو قدوم المناسبات والأعياد التي يجد من خلالها متسعاً من الرزق تساعده على مواصلة مهنة لا يستطيع تركها.

...