لا يزال الأثر الذي تمارسه المؤسسة الدينية في السياسة العراقية كبيرًا، وهو ما يجعل استمرار الأحزاب الدينية في المشهد السياسي العراقي قائمًا، رغم فشلها في تقديم أدنى مستوى للعيش الكريم للمواطن .
ويبدو أن التنافس على رضى المرجعيات الدينية في النجف وفي قم يتصدر مساعي الأحزاب والزعماء السياسيين في العراق، خلال الحملة الانتخابية.
ويأتي في المقدمة من ذلك محاولات كسب دعم وتأييد المرجع الأعلى علي السيستاني، الذي حرص وفي كل الحملات الانتخابية السابقة أن يقف على مسافة واحدة من جميع القوى.
و يبدو أن السيستاني رفض استقبال أي شخصية سياسية أو حكومية، وحتى لو كانت في أعلى هرم السلطة السياسية والمتمثلة برئيس الوزراء حيدر العبادي الذي نفى في وقت متأخر من ليل أمس الخميس، من خلال مكتبه الإعلامي ما تداولته وسائل التواصل الاجتماعي، والمواقع العراقية حول رفض السيستاني استقباله خلال قيامه بالترويج لحملته الانتخابية في النجف.
تنافس شيعي شيعي
و أطلق العبادي خلال حملته الانتخابية موقفًا متشددًا من قيادات الحشد الشعبي بعد حادثة قتل مسؤول المالية في الحشد الشعبي "قاسم الزبيدي"، والذي بحسب العبادي، أكد على وجود مقاتلين وهميين بين صفوف الحشد.
وأعلن العبادي أن الزبيدي، الذي جرى ضربه حتى الموت، أخبره بوجود فساد في توزيع الأموال واستيلاء بعض القيادات عليها، وشدد على أن هذا الملف بحاجة إلى تدقيق قبل أن يطلق أي زيادة في الرواتب.
وبعد أيام، من كشف الزبيدي لحجم الفساد المالي في الحشد، تم اغتياله من قبل بعض الغادرين، بحسب تعبير العبادي الذي توعدهم من النجف بالعقاب.
ويبدو أن موقف رئيس الوزراء العراقي، زعيم قائمة النصر، وقبله موقف مقتدى الصدر رجل الدين الشيعي وزعم التيار الصدري والمتحالف مع الحزب الشيوعي العراقي ضمن قائمة سائرون، وموقف قائمة الفتح الممثلة لقوات الحشد الشعبي، تعكس ضراوة النزال الانتخابي بين كبار القوائم الشيعية.
وبالرغم من نأي النجف بنفسها من الانحياز، على عكس قم، فإن الظاهر أن موقف النجف الأخير التمثل بالسيستاني أثلج صدر ممثلي النصر وسائرون والحكمة .
ووجه الصدر، انتقادات عنيفة لائتلاف الفتح بزعامة هادي العامري، و دعاه إلى عدم استغلال اسم الحشد الشعبي في الحملات الانتخابية، إلى حد قوله : "إن تشكيل قائمة الفتح هو عصيان لمرجعية النجف بل كل المرجعيات كافة"، لافتاً إلى أن أي عاقل لا يقبل بزج "المجاهدين"، في السياسة، خصوصا أن الحرب ضد الدواعش والانتصار لم يكن إلا بفضل الله والمرجعية، وما نحن وإياكم إلا جنوداً، ولا فضل للميليشيات الوقحة على الإطلاق".
ويبقى أنه لا يمكن اعتبار ما قاله العبادي أو حتى الصدر بحق قائمة الفتح موقفًا يبنى عليه، خاصة أن غالبية التصريحات والمواقف خلال الحملات الانتخابية تدخل في إطار التنافس الانتخابي والمعركة المحمومة بين القوائم الانتخابية المتنافسة.
كما أن التحالفات والتوافقات التي ستعقب الانتخابات مع الدخول في مرحلة تشكيل الحكومة الجديدة هي التي ستحدد إن كانت الخارطة السياسة أو المشهد السياسي في العراق سيتغير، وبأي نسبة؛ أو سيبقى على الأقل محافظًا على النظام الذي بني عليه العراق ما بعد 2003 ألا وهو التوافق.
وهذا يبدو صعبا مع أنه يصعب أيضا تغيير الوجهة السياسية للعراق وهو ما أكدت عليه المرجعية في النجف، وحذرت من عوة الاستبداد والتفرد بالحكم ، مايتعارض مع توجهات مرجعيات أخرى تريد حرف نظام الحكم، أو تتناغم مع محاولات قيادات عراقية سابقة إلى الانتقال من التوافق لحكم الأغلبية والتي بطبيعة الحال ستهمش مكونات لحساب مكون بعينه.
وعلى سبيل المثال، لا الحصر، هناك فتوى رجل الدين العراقي المقيم في مدينة قم الإيرانية، كاظم الحائري، الذي كفَّر القوى السياسية الدينية التي تتحالف مع العلمانيين في إشارة إلى تحالف التيار الصدري مع الحركة المدنية في العراق، و دعوته إلى انتخاب قائمة الفتح الممثله عن الحشد الشعبي، وأيضا فتوى مكتب آية الله صادق الشيرزاي الذي دعا فيها صراحة إلى حرمة التصويت لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي، وما تم تناقله حول مقولة "المجرب لا يجرب"على اعتبارها تمثل موقف النجف.
بيان السيستاني
وفي خضم زحام الفتاوى والدعوات التي أطلقتها المرجعيات، خرج اليوم السيستاني، وبعد ترقب ليحسم موقفه من التصويت في الانتخابات العراقية المزمع اجراؤها في 12 من الشهر الجاري، بإعلانه الوقوف على مسافة واحدة من جميع المرشحين للإنتخابات النيابية وعدم مساندته لأي شخص أو قائمة.
ولم ينتهي الأمر عند هذا الحد، لكنه حذر أيضا من اختيار الفاشلين والفاسدين من المجربين أو غيرهم، مؤكدًا على ضرورة تفادي الوقوع في مهالك الحكم الفردي والنظام الاستبدادي تحت أي ذريعة أو عنوان.
ونقل موقف السيستاني، ممثل المرجعية الدينية العليا "عبد المهدي الكربلائي"، خلال خطبة الجمعة، اليوم، في كربلاء.
وتلى الكربلائي بيان السيستاني، الذي ركز على ثلاثة أمور، تتعلق بموقف المرجعية من القوائم والشخصيات إضافة إلى حرية المواطن العراقي في الادلاء بصوته من عدمه مع التفضيل بالقيام بالتصويت، وآخرها منع استغلال المرجعية من قبل أي قائمة أو شخصية للتأثير على خيارات المواطنين.
وجاء في البيان أنه يجب أن" تتنافس القوائم الانتخابية على برامج اقتصادية وتعليمية وخدمية قابلة للتنفيذ بعيداً عن الشخصنة والشحن القومي أو الطائفي والمزايدات الإعلامية".
وأضاف "هذه الانتخابات حق لكل مواطن تتوفر فيه الشروط القانونية، وليس هناك ما يُلزمه بممارسة هذا الحق إلا ما يقتنع هو به من مقتضيات المصلحة العليا لشعبه وبلده، نعم ينبغي أن يلتفت إلى أن تخليه عن ممارسة حقه الانتخابي يمنح فرصة إضافية للآخرين في فوز منتخبيهم بالمقاعد البرلمانية وقد يكونون بعيدين جداً عن تطلعاته لأهله ووطنه".
وأوضح : "المرجعية الدينية العليا تؤكد وقوفها على مسافة واحدة من جميع المرشحين ومن كافة القوائم الانتخابية، بمعنى أنها لا تساند أيّ شخص أو جهة أو قائمة على الإطلاق، ومن الضروري عدم السماح لأي شخص أو جهة باستغلال عنوان المرجعية الدينية أو أيّ عنوان آخر يحظى بمكانة خاصة في نفوس العراقيين للحصول على مكاسب انتخابية".
مواقف ما بعد إعلان السيستاني
وعقب إعلان موقف المرجع الأعلى بسويعات توالت مواقف القوائم الانتخابية التي أجمعت على تأيدها لموقف المرجع الأعلى، سبقهم إلى ذلك رئيس الحكومة العراقية ورئيس قائمة النصر حيدر العبادي الذي أصدر بيانًا صحفيًا، أعلن فيه تأييده الكامل له، فيما دعا إلى المشاركة الواسعة في الانتخابات والاختيار الصحيح.
وبدوره دعا زعيم تيار الحكمة "عمار الحكيم" الشركاء السياسيين والشعب العراقي للإلتزام بتوجيهات المرجعية الدينية العليا بشأن الانتخابات، وحذر من إعادة اختيار المتهمين بهدر المال العام.
ويبقى أن معركة المرجعيات الدينية في الصراع السياسي خلال فترة الحملات الانتخابية للتأثير على الناخبين ستضع أوزارها بعد ظهور التنائج، ليبدأ فصل المساومات والمقايضات بين الأطراف ومن خلفها الأجندات الاقليمية التي ستتولى في النهاية وضع اللمسات الأخيرة على شكل الحكومة العراقية المقبلة، بين الأغلبية السياسية أو التوافقية.