فما بين إصرار الدول الاستعمارية على الاحتفاظ بالهيمنةِ في تسيير شؤون دول المنطقة، وممارسات النُخَبِ الحاكمةِ منذ ما اصطُلِحَ عليه بـ “الاستقلال”، وعواملٍ أخرى تتراوح بين الثقافةِ والاجتماعِ وغيرها، بين هذا وذاك، تتعمق الأزمةُ التي تعيشها المنطقة فيما يُعرَف بأزمةِ “الاندماج الوطني”. وتستمد هذه الأزمةُ سببيةَ وجودها من تَعَدُّدِ مستوياتها؛ كونها لا تقتصر على بُعدٍ سياسيٍ أو اقتصاديٍ أو ظرفٍ بيئيٍ، بل انها تتطرف رأسياً وأفقياً، وهو ما يجعلها أزمةً مُرَكَّبِةَ، بل انها تكاد تكون “الأزمة الأم” لكافة مشكلات الشرق الأوسط.
فيما يخص ماهية الاندماج الوطني، فقد تعددت الرؤى والاجتهادات، لكن هذا التنوع ذاته ينطلق من شمولية هذه العملية التي ترتبط بدمجِ الجماعاتِ الفرعيةِ المتمايزة تحت إدارةٍ أو سلطةٍ تأخذ في الاعتبار كافة السُبُلِ اللازمة لضمان التماسك بين هذه الجماعات، والحفاظ على استقرار هذا المجتمع، وضمان تقدمه. فيعرفه كارل دويتش Karl Deutsch بأنه “عمليةُ تنميةِ الشعورِ بالولاءِ الوطني أو الهويةِ الواحدةِ والتي تنصهر في إطارها الولاءاتُ الفرعية الأخرى. ويرى مايرون فاينر Myron Weiner بأنه عمليةُ خلقِ شعورٍ بالانتماء للإقليم الوطني بحيث يغطي هذا الشعور أو يلغي الانتماءات الأخرى. غير أن المتأمل في تعريفَي “دويتش” و”فاينر” يجد أنهما يتجاوزان، أو ربما يتجاهلان، خصوصية الولاءات الفرعية وأهميتها بالنسبة لأصحابها سواء على المستوى العرقي أو الديني نظراً لِتَجَذُّرِ هذين البُعدين في عُمقِ شعور ووجدان أبناء الجماعات المختلفة. وبالتالي، فإن تغطيةَ الولاءِ الوطني للولاء الفرعي، كما يقول فاينر، أو صهر الولاء الفرعي لصالح الوطني كما يقول دويتش، ربما يجعلنا بصدد قهرٍ ما للجماعات الفرعية المُشَكِّلة للمجتمع لصالح الولاء الوطني الذي ربما تسهم في تشكيله رؤيةُ الجماعات الحاكمة، أو المهيمنة Dominant، إما لاعتبارات التفوق العددي (الأكثرية)، أو حيازة عوامل القوة (توازن القوى). ومن هنا، لم يقدم التعريفان السابقان، وهما غربيان في المقام الأول، مفهوماً للاندماج الوطني بشكلٍ يتوافق مع جوهرِ مشكلةِ “الاندماج الوطني” وخطورتها.
في هذا الإطار، حاولت بعض التعريفات تخطي هذا القصور السابق؛ فيُعَرِّفُ دوف رونين Dov Ronen الاندماج الوطني بأنه “الشعور بالوحدة الوطنية والولاء للحكومة المركزية والانتماء للإقليم الوطني”. كما يُعَرِّفهُ ابراهيم نصر الدين بأنه “العمليةُ التي يتم من خلالها تعزيز الولاء الوطني، سواء بالإغراء أو بالإكراه، ليسمو فوق كافة الولاءات الفرعية “دون الوطنية” Primordial Loyalties في المجتمع”. وتعرفه أيضا الدكتورة إكرام بدر الدين بأنه “عملية تحقيق التجانس والانسجام داخل الجسد السياسي والاجتماعي وتخطي الولاءات الضيقة وغرس الشعور بالولاء والانتماء للدولة ومؤسساتها المركزية وإيجاد إحساسٍ مشكركٍ بالتضامن والهوية الموحدة.
يُلاحظ على هذا الفريق أنه يستبعد مصطلحات مثل الصهر Melting والتغطية على الولاءات الفرعية، وان كان هذا الفريق يعني تجاوزها، إلا أن هذا التخطي أو التجاوز لا ينبغي أن يتجاهل هذه الولاءات الفرعية والتي هي في المقام الأول وحدات أساسية لبُنيةِ المجتمع، يستند عليها ويستمد قوته من تنوعها وتماسكها. كما أن هذا الاندماج إنما هو “عملية” Process في المقام الأول، أي أنها ذات صيرورة تاريخية وديناميكية لا تتوقف حفاظاً على تماسكها، فلها مدخلات، ولها أيضاً مخرجات تتفاعل فيما بينهما لِتُنتِج هذا التماسك أو الاندماج.
وبالتالي، يصبح الاندماج الوطني هو العملية الدائمة التي يتم بموجبها تعزيز الشعور بالانتماء للكيان المجتمعي الأكبر، ودعم السلطة المركزية في إدارة شؤون هذا المجتمع، مع عدم تجاهل أوضاع الكيانات الفرعية المُشَكِّلةِ له، كونها ركائز أساسية ذات دورٍ تاريخي في تكوينه واستمراريته، كما أنها تُسهِم في تماسكه وتعزز قوته. إن ذلك، لطالما كان “الفريضة الغائبة” في الصيرورة التاريخية لمجتمعات الشرق الأوسط منذ حصولها على الحق في إدارة شؤونها ذاتياً عبر مسارات متشابهة بين دول المنطقة، وهو ما سنقف عليه لاحقاً. وقد لعبت طبيعة تشكل هذه النخب والأنظمة السياسية الحاكمة المتعاقبة على دول المنطقة دوراً محورياً في تعميق أزمة “الاندماج الوطني” المستمرة حتى يومنا هذا.
نظراً للمكانةِ التاريخيةِ لمنطقةِ الشرقِ الأوسطِ، وأهميتِها الجيوستراتيجية، فقد تفاعلت مع أزماتها كافة القوى العالمية، المؤثرة على مَرِّ التاريخ. وهو ما جعل مهمة البحثِ في جوانب هذه الأزمات وتقديم أطروحات لتسويتها، (وليس بالضرورة حلها)، في نطاق اهتمام كافةِ هذه القوى، وليس حصراً على شعوب المنطقة. وقد تمثَّلت أهمُّ الأطرِ التي حاولت استيعاب مجتمعات هذه المنطقة وشعوبها، واحتواء مشكلاتها بما لا يتعارض مع مصالح القوى العالمية المُهَيمِنة، تمثَّلت في الدولة القومية التي دار في فَلَكِها غالبيةُ العمران البشري خلال القرون الأخيرة، والتي استوت في ظلها دول المنطقة عقب حصولها على الاستقلال.
غير أن نموذج “الدولة القومية”، لم يكن سوى إطار لاستيعاب التجمعات البشرية التي خرجت من تحت عباءة القوى المهيمنة، وفقا لرؤية الأخيرة، وبما يخدم مصالحها. ففي ظل الدولة القومية استقرَّت أنظمة الحكم القومية. وقد أسهمت طريقةُ تَشَكُّلِ بُنيَةِ هذه الدول القومية والنُخَب المُسَيطرة عليها في إعاقة قدرتها على استيعاب مشكلة الاندماج الوطني بما يحافظ على تماسك المجتمع رغم تنوعه وثراءه. بل لطالما أسهمت هذه النخب في إزكاء هذه المشكلة وتجذرها بما يجعلها سبباً في اندلاع غالبية أشكال التمرد الجماهيري والاحتجاجات الثورية التي عرفتها دول المنطقة على مدار العقود التالية على تَشَكُّلِ بنيتها الدولتية. بل إنها كانت أول ما يطل برأسه من مشكلات عقب سقوط الأنظمة نتيجة هذه الاحتجاجات.
لم يكن سقوط النخب الحاكمة، أو الثورات، هو المظهر الوحيد لأزمة الاندماج الوطني في الشرق الأوسط، بل إن ثَمَّةَ الكثير من الجماعات الفرعية المشكلة لدول المنطقة ممن رفعوا راية الشكوى والاحتجاج تعبيراً عن خَلَلٍّ عَميقٍ يخص الاحساس بالعدالة الاجتماعية، الناجم عن هيمنةِ الجماعات المسيطرة على السلطة سياسياً وثقافياً واقتصادياً. ولم يكن بِبَعيدٍ عن ذلك الخَلَلِ البنيوي المتجذر إمَّا في بُنية الدولة القومية التي تأسَّست وفقاً لرؤى استعمارية وخدمة لمصالحها، سواء على مستوى عمليات ترسيم حدود هذه الدول، أو اختيار النخب الحاكمة بما يضمن للقوى الدولية المُهَيمنةِ استمرار فرض نفوذها فيما بعد، أو في الثقافةِ السياسيةِ لهذه النخب وسمات التمركُزِ حول الذاتِ القومية، وهو ما يُفسر الكثير من الحالات التي تعكس مظالمٍ تاريخيةٍ لدى أصحابها مثل الحالة الكردية باعتبارها في مقدمة الأزمات المُزمِنَةِ بالشرق الأوسط، والتي خلَّفَها هذا السياق الذي تفاعل في إطاره البعد الاستعماري مع البعد القومي. وهناك أمثلةٌ أخرى مثل الحالة ِالأمازيغية التي ترفع رايةَ الحقوق الثقافية، وكذلك حالة انفصال جنوب السودان عن شماله نتيجةً لفشلِ النخبِ الحاكمةِ المُتَعاقِبةِ في جَعلِ الوحدةِ والولاءِ للحكومة المركزية خياراً مُفَضَّلا لدى كافةِ فِئات المجتمع. كما تَجَلَّت هذه الأزمةُ في مستويات أخرى، كالمستوى الجيلي الذي تمثَّلَ في انتفاضات الشباب العربي على مدار العقد السابق نتيجة للفجوة الجيلية بين النخب الحاكمة والأجيال الجديدة الشابة.
لقد تعدَّدَت الأطروحات فيما يخص التعامل مع التنوعِ واحتواء مَشكلات الاندماج الوطني، وقد خَرجت غالبيتُها من عباءةِ النموذج الديمقراطي باعتباره يمثل حكمَ الشعب لنفسه بنفسه، ورغم وجاهةِ بعضِ النُسَخِ المُعَدَّلة من هذا النموذج مثل الديمقراطية التوافقية Consensus democracy، والديمقراطية التداولية Deliberative democracy و الديمقراطية الاجتماعية Social democracy وغيرها، إلا أن نموذج “الأُمَّة الديمقراطية” الذي يقدمه الزعيم الكردي عبد الله أوجلان يقف في مقدمة النماذج التي تحظى بدرجةٍ أكبر من الجدية في التعامل مع إشكاليات التنوع وأزمة الاندماج الوطني. غير أن وجاهة وجدية نموذج الأمة الديمقراطية تنبع من الرؤية النقدية الحادة التي يقدمها أوجلان للدولة القومية باعتبارها نبتاُ لموجةِ الحداثة الرأسمالية التي هبَّت على العالم خلال القرون الأخيرة، بما يجعل هذا النموذج جديراً بالقراءة النقدية وهو ما يتناوله المقال القادم.
المصدر: مركز آتون للدراسات
الدكتور: طه علي