قال الدكتور "جمال عبدالجواد"، مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، إن احتلال تركيا لعفرين والمدن الكردية في شمال سوريا، يعد بمثابة محاولة من أردوغان لتعويض خسارته لأطماعه منذ بداية الأزمة السورية بتنصيب حكومة موالية له في دمشق.
وأوضح عبدالجواد في حوار خاص لوكالة فرات للأنباء ANF، أنه شاهد تجربة الإدارة الذاتية ومجلس سوريا الديمقراطية في الشمال السوري على الأرض وحضر المؤتمر الثالث لمجلس سوريا الديمقراطية كمراقب، مؤخرا، مما أثار إعجابه بهذه التجربة.
وحذر عبدالجواد من خطورة سياسة أردوغان على مستقبل الشمال السوري، ليس فقط في الحاضر ولكن من خلال غرسه بذور صراع مستقبلي نتيجة التغيير الديموغرافي في المنطقة، لافتاً إلى أن سياسة "مجلس سوريا الديمقراطية" الحكيمة منعت من نشوب حرب أهلية هناك؛ فإلى نص الحوار:
** بعد مرور 7 سنوات من عمر الأزمة السورية كيف تشابكت المصالح وتعدد الفاعلين وأين وصلت تلك الحرب الآن؟
- هناك استحقاقات بعد سنوات الحرب السبع، فالأزمة لم تعد سورية فقط، ولكن للإقليم بأسره، فهناك أطراف إقليمية ودولية كثيرة لعبت دوراً رئيسياً، ولا تزال، ومن ثم فإن إنهاءها سيكون عبر التسوية التي سيتم التوصل إليها بين هذه الأطراف.
والحقيقة أنه لولا تدخل هذه الأطراف في الأزمة لاختلف الوضع كثيرًا، فهذه الأطراف هي التي صاغت الوضع الراهن وستؤثر على المستقبل.
ولأنه لا يوجد أشياء مجانية، فإن كل من أسهم بشيء ينتظر تحصيل الثمن، ومن له وجود على الأرض لن يتخلى عنه، أو يسلمه بشكل طوعي إلا إذا نال المقابل، أو استخدم هذا الوجود لفرض أمر واقع جديد، ومن ثم فإن الأطراف الموجودة على الأرض لديها استحقاقات.
ومن بين هذه الاستحقاقات يأتي استحقاق الإسرائيليين في المناطق الجنوبية، واستحقاق للأتراك في الشمال، والروس في المتوسط وجميع الأراضي السورية لأنهم قدموا الحماية للنظام، وهناك استحقاق للإيرانيين، الذين وفروا جزءاً رئيسياً جداً من القوات التي تولت الحرب باسم النظام، لوجودهم هم وحلفاءهم على الأرض، إضافة إلى الولايات المتحدة، ووجودها القوي في شمال سوريا ودورها الرئيسي في القضاء على تنظيم "داعش".
وللأسف الطرف السوري، حكومةً ومعارضة، هي الحلقة الأضعف في هذه المعادلة، فالحكومة السورية مدينة للأطراف التي ساعدتها، بينما المعارضة هُزمت في هذه الحرب الأهلية، وأهم ما بقي من المعارضة هم الكرد، أي قوات سوريا الديمقراطية أو التجربة الحاصلة في شمال سوريا، بمكونيها الكردي والعربي.
وهذه التجربة هي بالأساس كردية، وإذا كان هناك تفاوض حقيقي سيحدث بين أطراف سورية بشأن مستقبل سوريا فإنه سيكون بين الكرد والنظام، أما بقية أطراف المعارضة فمهمشة ووجودها على الأرض ضعيف وكلها تابعة تعتمد على أطراف خارجية وبالتالي فلن يكون لها وجود مستقل.
** هل الحرب في مرحلتها الأخيرة .. وهل هناك طرف منتصر؟
- النظام السوري يتصرف حالياً وكأنه المنتصر في هذه الحرب، والحقيقة أنه اجتاز هذه الحرب ولن ينتهي وجوده بنهايتها، لكن من الخطأ أيضا أن يتصرف كما لو كان انتصر في هذه الحرب، لأن من انتصر له آخرين، وبدونهم لم يكن ليصل إلى هذه النتيجة، ولا يوجد مبرر لحالة تهنئة الذات التي ألاحظها في الإعلام السوري الحكومي، فالنظام باقي والنظام لاعب رئيسي في الفترة المقبلة، ولكن لا يوجد ما يبرر الاحتفال أو تهنئة الذات.
** وما مستقبل اللاعبين الإقليميين في الساحة السورية؟
- تقديري أن الوضع في سوريا لن يأخذ شكلاً نهائياً ويستقر في الفترة القريبة المقبلة، وستظل هناك أسئلة كثيرة بلا إجابات، وأوضاع معلقة، لأن هناك صعوبة في التوصل لصياغات نهائية قابلة للحياة، فأقصى ما استطاعت إسرائيل أن تحصل عليه هو إبعاد القوات الايرانية عن حدودها؛ لكن هذا غير كافٍ بالنسبة للإسرائيليين، فهم ما زالوا منزعجين من أي وجود لإيران وحزب الله في سوريا، ورافضين لأي تغيير على الأرض عما كان عليه الوضع قبل 2011، ويرفضون إعطاء شرعية لأي تغيير، وبالتالي ستظل هناك حالة عداء واستخدام للقوة المسلحة ضد الوجود الإيراني ووجود حزب الله، وهي ليست حالة حرب مستمرة ولكن لن يكون مناسب للسلام الحقيقي.
أما بالنسبة لتركيا في الشمال، فإن هناك صعوبة في حسم الملفات المفتوحة في شمال سوريا، فقوات سوريا الديمقراطية لعبت دور رئيسي في القضاء على "داعش"، وعمليا تحكم جزء كبير من سوريا شرق الفرات، وتتمتع بدعم أمريكي.
وسيكون من الصعب جداً تصفية هذه الحالة وإعادة دمج مناطق شمال سوريا في الحالة السورية العادية البعثية الأسدية التقليدية، فهناك مفاوضات بدأت بين الطرفين وأتصور أنها ستكون مستمرة لفترة طويلة، وهذا جيد في هذه المرحلة فأن يكون هناك حوار وإمكانية لتحقيق تعاون بين الأمور الإدارية والتنموية والتقنية، لكن الجزء السياسي سيكون به صعوبة شديدة في حسمه، فطبيعة السلطة في شمال سوريا والعلاقة مع الحكومة المركزية في دمشق من الصعب جداً حسمها، لكن المفاوضات ستكون نوع من أنواع صمام الأمان الذي يمنع انفجار الوضع.
وتركيا لم تدخل شمال سوريا لتنسحب بسهولة، فإنها ستظل إما لمخاوف تتعلق بالقضية الكردية أو بسبب طموحات تركيا وأطماعها القديمة في شمال سوريا وحلب والموصل، فهناك نزعة التوسع التركية وهناك حلفاء لتركيا على الأرض مسلحين ومعروفين ولن تتخلى عنهم تركيا بسهولة، فقد تم حشد ونقل المقاتلين الإسلاميين من أنحاء سوريا المختلفة في إدلب، شمال سوريا، المناطق التي تسيطر عليها تركيا، ولا أظن أن تركيا ستتخلى عن هذه الورقة الأهم التي تمتلكها في سوريا.
وبالتالي فإن المعركة ستكون دامية، والنظام يتحدث حاليا عن إدلب، لكن ماذا عن عفرين مثلا؟ فهل النظام سيحارب لتحرير عفرين؟.. أشك؛ فعندما دخلت تركيا عفرين كان كل العالم بما فيهم السوريين يتحدث عن أن هذه حرب تركيا ضد الأكراد، وحتى النظام لم يتحدث سوى بشكل هامشي عن حرب تركيا ضد سوريا.
أما إيران فقواتها القائمة على الأرض لن تنسحب، وهي ما زالت تعمل بعقلية الثورة والتوسع، وقدمت استثمارات وتضحيات ضخمة جداً للوصول للنتيجة الراهنة، ولن تستجيب بسهولة للمطالب الإسرائيلية بالانسحاب، وحتى لن تسلم نفوذها في سوريا لنظام بشار الأسد، فالنظام لن ينتهي، وبشار الأسد مستمر، ولكن سوريا التي يحكمها بشار الأسد فيما قبل 2011 لن تعود، ولن يعود لحكم سوريا كما كان يحكمها من قبل، بل سيظل هناك وجود إيراني، ووجود روسي قوي يزاحم قدرته على الحكم المنفرد.
** يزعم الأتراك أحيانا أنهم يستندون لإتفاقية أضنة للتدخل في سوريا فما تعقيبك؟
- يصعب استخدام أية إتفاقات سابقة لإعطاء شرعية لمثل هذا التدخل التركي، وهذه الإتفاقية لا تمنح لتركيا حق العمل منفردة في هذه المنطقة، وما قامت به في سوريا تجاوز كل القوانين والإتفاقيات.
** ما التداعيات المحتملة لمحاولات التغيير الديموغرافي التي تقوم بها تركيا حالياً في شمال سوريا، وهل يمكن أن تشكل نواة لحرب أهلية فرعية في هذه المنطقة؟
ما يفعله أردوغان في هذه المنطقة هو غرس لبذور الصراع الذي يريد أن يظهر في المستقبل، فاليوم هناك صراع مكتوم بين الكرد والعرب الذين هُجِروا، وتم توطينهم في المنطقة، وهناك ممارسات خبيثة تقوم بها تركيا عبر إبعاد المواطنين الأصليين وحرمانهم من ممتلكاتهم، ولكن لولا السياسة الحكيمة لمجلس سوريا الديمقراطية لتحول ذلك إلى حرب أهلية، ولكني في المقابل أخشى من حدوث صراع في المستقبل نتيجة التغيرات الديموغرافية التي جرت.
** قلت إن الكرد في شمال سوريا مؤهلين للدخول في مفاوضات مباشرة مع النظام وبالفعل قد دخلها، فهل يمثل ذلك دلالة أو مؤشر على مستقبل سوريا خاصة دستورياً، وهل سنجد دستوراً فيدرالياً؟
- النظام يقبل بكلمة اللامركزية؛ ولكنه لا يزال يعطيها طابعاً إدارياً أكثر منه سياسياً، وهذا هو الخلاف الدائر علي شمال سوريا، حول عمق اللامركزية، فالنظام يريد أن يفرض لامركزية سطحية إدارية في المقام الأول، مثل شرطة السير وغيرها من مظاهر الإدارة؛ لكن بشرط ألا تؤثر بشكل جوهري على هيكل وتقاسم السلطة في شمال سوريا.
وهو بالمقابل لا يستطيع أن يفرض على الكرد أو مجلس سوريا الديمقراطية سلطة مركزية كما كان في السابق، لا بقوة السلاح ولا بالإقناع.
وربما تتشكل بنهاية هذا العام لجنة كتابة الدستور ولكنها ستستغرق وقت طويل جداً لكتابته، لأن هذه مفاوضات حقيقية بين أطراف محلية وخارجية والأمر معقد جداً، فالأمر ليس مجرد عملية كتابة دستور في وضع مستقر، بل إدارة تقاسم للسلطة، ومن ثم سيكون هناك تفاوض كبير خلال صياغته، وبلامقابل صراع على الأرض، فكل طرف سيحاول فرض تصوره.
وأعتقد أنهم سيكونون أقرب للنموذج العراقي، فلن يتخلى الكرد عن مكاسب حققوها، كما أنهم لا يريدون الإنفصال أو المواجهة العسكرية.. هم يطمحون إلى الوحدة لكن بشروط يصعب إقناع النظام بها حتى الآن.
**ماذا عن مشاركتكم في المؤتمر الثالث لمجلس سوريا الديمقراطية، وما أبرز مشاهداتك للوضع في روج آفا؟
- بالتأكيد هناك تطورات هامة كثيرة تحدث في شمال سوريا، ومن المهم جداً أن نكون قريبين من التجربة هناك، كما أنهم من المهم أيضا أن نكون قريبين من التغيير الحادث في الفكر السياسي الكردي في الإقليم.
فالأمر يتغير من الفكر السياسي التقليدي لحزب العمال الكردستاني وقائده المفكر القومي اليساري "عبدالله أوجلان"، حيث كانت بدايته منظمة قومية يسارية مسلحة تسعى لتكوين كيان وطني كردي أو دولة كردية، لكن الآن هناك تغيير مهم جداً في الأيديولوجيا، يتجاوز مسألة الدولة القومية، ويتحدث عن الأمة الديمقراطية، والديمقراطية كشرط للتعايش بين أمم متعددة في داخل نفس الكيان السياسي، أي إعادة النظر في الدولة بالمعنى التقليدي أو القومية بالمعنى التقليدي أو فكرة الدولة القومية أو الدولة الأم.
وهذا تغير فكري مهم جداً، وهناك جزء كبير من النشطاء الكرد مقتنعين بهذا التحول وهذا لا ينقص شيء من الشعبية الكبيرة لعبدالله أوجلان وأفكاره في هذه المنطقة، ما بين كرد تركيا وسوريا وإلى حد ما في العراق.
وأنا أدرك أنه على الجانب العربي هناك تشكك في مدى صدق وجدية هذه الفكرة، ولكن هناك تحول مهم علينا أن نلاحظه ونشتبك معه وندفعه في الإتجاه المطلوب لوحدة سوريا، فهم مع وحدة سوريا، ولكن وحدة ديمقراطية، فهل هناك شروط ديمقراطية متوفرة في سوريا، بالتأكيد لدينا شك، ولكن مرة أخرى، هناك شيء مهم يحدث هناك وإقليم يدار ذاتيا بشكل فعال جداً، والنشطاء الكرد هم عصب الحكم هناك بالإضافة للوجود العربي، ولكن مازال حتى الآن العمود الفقري هم النشطاء الكرد وقواتهم المسلحة، والوعد كبير حول التعددية والتعايش والسلام والتعامل مع الشعوب على قدم المساواة.
والمؤتمر الذي حضرته كان جيد وكان هناك تمثيل لكل الطوائف، كما أن التحول المهم نحو الحوار مع الدولة السورية سمح بمشاركة نشطاء قريبين من النظام وسمح لهم بالحديث في المؤتمر بصورة متساوية، وهناك حديث أكثر عن اللامركزية، وهذا تحول مهم يدل على مدى جدية سوريا الديمقراطية في فتح هذا الحوار.
أيضاً هناك قضية مهمة، وملمح قابلته، يتمثل في حالة التحول الاجتماعي، والتجربة المتعلقة بالمرأة وهذه تجربة رائعة، فدمج المرأة في هيكل الحكم السياسي على كافة المستويات هو نموذج رائع ومشجع، وجدي وليس مظهرياً.
وهذا بالنسبة لي أهم من كل الحديث في السياسة؛ لأن الفرق بين التقدم والتخلف هو هذه القضية، وهذا أحد الأسباب الذي يجعلني أدعو مصر والدول العربية لتبني واحتضان "سوريا الديمقراطية"، وذلك للدور الذي يمكن أن تحدثه هذه التجربة في نشر التقدم الإجتماعي في الإقليم كله، وهزيمة الأفكار الرجعية والتطرف.
ونحن رأينا في الفترة الأخيرة بلد مثل السعودية ينتفض ضد هذه الممارسات والأفكار، ووجود تجربة مثل تجربة سوريا الديمقراطية معناها أنه سيكون هناك دعم لعملية التقدم الاجتماعي في المنطقة عندما يكونوا جزء منها وليس عندما يكونوا منفصلين عنها أو في حالة عداء، ونحن لسنا في حاجة لذلك، بل نحن نحتاج للاستفادة من هذه التجربة.
** ماذا عن الانفتاح على التجربة سياسياً أيضاً؟
- هذا أمر ضروري جداً؛ لأنه كلما اطمأن النشطاء الكرد لقبولهم عربيا، كلما سيقلل ذلك من مخاوفهم من الاندماج في سوريا، وعلى الجانب الاخر، كلما دخل النظام السوري في علاقة بغطاء عربي مع الكرد، سيسمح له ذلك بتقديم تنازلات والوصول لصيغ إيجابية، ربما لن يقبلها في ظروف أخرى، ورغم اضطراب علاقة سوريا بالعالم العربي، إلا أن المستقبل لا يزال به فرص أكبر.