الحرب التجارية بين واشنطن وبكين في أوجها ومخاوف من حالة ركود عالمية

تتواصل الحرب التجارية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين على أكثر من محور تجاري في نسق تصاعدي يشير إلى أن الهدوء والتعاون الذي كان يسود العلاقات الاقتصادية بين البلدين بعيد المنال في المنظور القريب.

وبدأت الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 22 آذار/مارس من عام 2018 عن وجود نية لفرض رسوم جمركية تبلغ 50 مليار دولار أمريكي على السلع الصينية بموجب المادة 301 من قانون التجارة لعام 1974 التي تسرد تاريخ «الممارسات التجارية غير العادلة» وسرقات الملكية الفكرية.

وكرد انتقامي من الحكومة الصينية فقد فُرضت رسوم جمركية على أكثر من 128 منتج أمريكي أشهرها فول الصويا.

ولم تعد الشركات الصينية بالنسبة للإدارة الأمريكية الحالية مجرد منافس قوي في مجالات عدة أبرزها الاتصالات والهواتف الذكية، بل تحولت إلى "خطر على الأمن القومي الأمريكي" حسبما ذكر الرئيس الأمريكي.

وعلى الرغم من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يقول إنه سياسة التعريفات الجمركية تهدف إلى تشجيع المستهلكين على شراء البضائع الأمريكية من خلال جعل السلع المستوردة أغلى ثمنا، إلا أن الوقائع على الأرض تشير إلى وجود أهداف سياسية خلف هذه الحرب الاقتصادية على الصين.

وأبرز مثال على أن الحرب التجارية تتجاوز سياق التنافس الاقتصادي وحماية السلع المحلية الأمريكية هو الحرب الأمريكية على شركة هواوي للاتصالات والهواتف الذكية التي تتصدر المرتبة الثانية على الصعيد الدولي في مبيعاتها التي بلغت نسبتها 19 بالمائة من نسبة المبيعات عالميا، بعد شركة سامسونج الكورية التي تحتل المرتبة الأولى بنسبة 23 بالمائة على الرغم من تراجع مبيعاتها بنسبة 8 بالمائة عالمياً، في حين تحتل شركة آبل الأمريكية المرتبة الثالثة بنسبة 12 بالمائة.

التسلسل الزمني لفرض الرسوم الجمركية بين العملاقين الاقتصاديين

فرضت واشنطن في كانون الثاني عام 2018 رسوم جمركية بنسبة 30% على الألواح الشمسية المستوردة و20% على الغسالات المنزلية، ما دفع الصين إلى الرد في 9 آذار من العام نفسه، حيث اعتبرت الرسوم الجمركية هجومًا خطيرًا على التجارة الدولية، وهددت باتخاذ خطوات مضادة إذا ما تعرض رجال الأعمال الصينيين للخسائر، وفى ذات اليوم، صعدت واشنطن، بفرض جمارك بنسبة 25% على الحديد و10% على الألومنيوم، مستهدفة بضائع صينية بقيمة 3 مليارات دولار.

وجاء الرد الصيني في الثاني من نيسان العام الفائت، حيث فرضت بكين رسوم جمركية بنسبة 25% على 128 سلعة أمريكية، واستهدفت الرسوم بضائع أمريكية تصل قيمتها إلى 3 مليارات دولار، وتوالى التصعيد الأمريكي، ففي 3 نيسان، حذرت واشنطن من فرض جمارك على 1300 سلعة صينية، والجمارك تستهدف بضائع صينية بقيمة 50 مليار دولار، وفى اليوم الذي يليه جاء الرد الصين، بتحذير بفرض جمارك على 106 سلع أمريكية تصل قيمتها إلى 50 مليار دولار.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، حيث دعا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في الخامس من نيسان عام 2018، إلى فرض جمارك على بضائع صينية أخرى تصل قيمتها إلى 100 مليار دولار، وجاء رد الصين سريعًا في ذات اليوم، حيث أعلنت بكين، أنها بدأت بالفعل بوضع إجراءات مضادة للإجراءات الأمريكية، وأنها ستستهدف بضائع تقدر قيمتها بحوالي 100 مليار دولار، وفى 6 نيسان، كان لتلك الإجراءات أثرها على سوق البورصة الأمريكية "داو جونز" التي خسرت 572 نقطة أي حوالي 2.3% من قيمة أسهمها.

من سيتحمل تبعات هذه الحرب التجارية وزيادة التعرفات الجمركية؟

يدفع المستوردون الأمريكيون، وليس الشركات الصينية، الرسوم الجمركية في صورة ضرائب للحكومة الأمريكية، بحسب ما أكده كريستوف بوندي، المحامي في شركة كولي إل إل بي.

ويقول بوندي، الذي كان مستشارا رفيع المستوى للحكومة الكندية خلال مفاوضات اتفاق التجارة الحرة بين كندا والاتحاد الأوروبي، إنه من المحتمل أن يدفع تلك التكاليف الإضافية المستهلكون الأمريكيون في صورة أسعار مرتفعة. وأضاف: "لهذه الرسوم تأثير مدمر في سلسلة الإيرادات"

وتفيد دراستان أكاديميتان نشرتا في شهر مارس/آذار إلى أن الشركات الأمريكية والمستهلكين دفعوا تقريبا التكلفة الكاملة للرسوم الجمركية التي فرضتها أمريكا على الواردات من الصين، ومن غيرها من دول العالم في العام الماضي.

ويقول اقتصاديون من البنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، ومن جامعتي برينستون وكولومبيا، إن الرسوم التي فرضت على شريحة كبيرة من الواردات، بدءا من الصلب، وحتى الغسالات، كلفت الشركات الأمريكية والمستهلكين 3 مليارات دولار في الشهر في صورة تكاليف ضريبية إضافية.

ويضاف إلى ذلك - كما يقول الاقتصاديون - مليار و400 مليون دولار خسائر بسبب انخفاض الطلب.

وتوصل بحث آخر إلى أن المستهلكين الأمريكيين والشركات هم من يدفعون معظم تكاليف الرسوم الجمركية.

الصين تتخذ خطوات عقابية مماثلة

بدورها، أعلنت الصين في الثالث والعشرين من آب الجاري عزمها فرض رسوم جمركية إضافية تصل إلى 10 في المئة، على بضائع مستوردة من الولايات المتحدة بقيمة 75 مليار دولار أمريكي، وسط تصاعد الحرب التجارية بين القوتين العُظميين.

وستشمل الرسوم الجمركية الجديدة المنتجات الزراعية والنفط الخام، والطائرات الصغيرة إلى جانب منتجات أمريكية أخرى.

وتأتي هذه الخطوة بمثابة رد انتقامي من الصين إثر كشف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في بداية آب الجاري عن خطة لفرض ضرائب بنسبة 10 في المئة على بضائع مستوردة من الصين بقيمة 300 مليار دولار أمريكي.

وبينما سيؤثر هذا الإجراء على ما يقرب من 10 بالمائة من صادرات السلع الأمريكية إلى الصين، في نفس الوقت ما يقرب من ثلث إجمالي الصادرات الأمريكية إلى الصين سيظل بمنأى عن انتقام بكين. على الرغم من استفزازات ترامب، لم تفرض الصين رسومًا إضافية على الصادرات الأمريكية الرئيسية مثل شركات الطائرات والمنتجات الصيدلانية.

وتتراوح الزيادة في الرسوم الجمركية ما بين 5 إلى 10 في المئة، وستطبق على أكثر من 5000 من السلع التي تستوردها الصين من الولايات المتحدة.

وستعيد الصين العمل بتعرفة جمركية مقدارها 25 في المئة على السيارات المستوردة من الولايات المتحدة، بعد أن كانت ألغتها في وقت سابق من العام الحالي، بهدف إبراز حسن النوايا في وقت كانت فيه الدولتان تحاولان التفاوض حول اتفاقية تجارية مشتركة.

تحذيرات من مصنعي السيارات في الولايات المتحدة الأمريكية

دفعت التحركات الصينية العقابية شركات صناعة السيارات في الولايات المتحدة إلى إطلاق تحذيرات من أن الضريبة ستعرض الوظائف في هذا القطاع في أمريكا للخطر.

وقال جون بوزيلا، الذي يمثل مصنعيّ السيارات في الولايات المتحدة "عندما فرضت الحكومة الصينية هذه الرسوم للمرة الأولى عام 2017، تراجعت الصادرات الأمريكية من السيارات الجاهزة بنسبة 50 في المئة". وأضاف "لا يمكننا أن نترك هذا يحدث للعمال الأمريكيين مرة أخرى".

قرار بكين الأخير يستفز ترامب

قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الرابع والعشرين من آب الجاري أي بعد يوم من قرار الصين الانتقامي، إنه أصدر "أمرا واجب النفاذ" للشركات الأمريكية بمغادرة الصين بعد إعلان بكين فرض تعرفات جمركية على سلع ومنتجات أمريكية.

ولم يوضح البيت الأبيض إذا ما كان لدى الرئيس الأمريكي السلطة التي تخوله أن يجبر الشركات الأمريكية الخاصة على مغادرة الصين.

وتعهد ترامب بالرد على بكين بعد أن كشفت السلطات الصينية النقاب عن خطة لفرض تعرفة جمركية بواقع 10 في المئة على سلع ومنتجات أمريكية بقيمة قد تصل إلى 75 مليار دولار سنويا.

وتراجع مؤشر داو جونز الصناعي أكثر من 620 نقطة بانخفاض بلغ 2.4 في المئة في تعاملات يوم الجمعة الفائت، بينما أغلق مؤشر فوتسي بخسارة 100 نقطة لبورصة لندن كما أغلق مؤشر داكس بخسارة بلغت 30 نقطة لبورصة فرانكفورت.

وقال الرئيس ترامب، في نهاية حديثه الحافل بالانتقادات اللاذعة: "نصدر أمرا واجب النفاذ للشركات الأمريكية بأن تبدأ في البحث عن بديل للصين، وأن تنقل جميع أعمالها إلى الوطن وتصنع منتجاتها هنا في الولايات المتحدة".

وغرد ترامب على موقع التواصل الاجتماعي تويتر، قائلا: "لا نريد الصين، وبصراحة، سنكون أفضل بكثير بدونهم".

وأضاف: "بلادنا فقدت، بغباء، تريليونات الدولارات أثناء التعامل مع الصين على مدار سنوات عدة. لقد سرقوا حقوق الملكية الفكرية الخاصة بنا، والتي تُقدر بمئات المليارات سنويا. إنهم يريدون الاستمرار في ذلك، لكنني لن أسمح لهم".

صراع العملاقين الاقتصاديين: مخاوف متزايدة في صفوف المستثمرين

يشكل تأزم الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، خطراً كبيراً يهدد المستقبل التجاري بين العملاقين الاقتصاديين، وذلك في ظل استمرار الاجراءات التصعيدية من كلا الطرفين بفرض رسوم جمركية إضافية على بعض السلع التي يتبادلان استيرادها وتصديرها فيما بينهما، بما يعود بخسائر كبيرة على رجال الأعمال في البلدين، وكانت آخر التطورات أن نقلت بكين الأزمة رسميًا إلى منظمة التجارة العالمية.

وعلى الرغم من محاولة الصين تهدئة الصراع مع الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن المخاوف بين المستثمرين في كافة دولة العالم وبالأخص في الولايات المتحدة والصين تتزايد بشكل مضطرد في ظل غموض نتائج هذه الحرب التجارية الطاحنة بين الجانبين.

وفي هذا السياق، قال بنك أوف أمريكا في أحدث مسح شهري له إن المستثمرين قاموا بشراء السندات سعيا للأمان بأكبر وتيرة منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008 حيث يعزز تأجيج التوترات التجارية بين الصين والولايات المتحدة احتمالات حدوث ركود.

وبحسب تقرير نشرته وكالة رويترز في الثالث عشر من آب الجاري، قال مستثمرون إن سندات الحكومة الأمريكية كانت” الأكثر“ تداولا للشهر الثالث على التوالي بينما يرون أن الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين هي الخطر الأكبر على الأسواق.

ودفع الطلب المرتفع على السندات العوائد إلى الانخفاض لأدنى مستوى في عدة سنوات في سائر الدول المتقدمة حيث سجل العائد على سندات الحكومة الألمانية، الملاذ الآمن التقليدي الأوروبي، مستويات جديدة متدنية على نحو قياسي.

ويتوقع ثلث المستثمرين الذين شملهم مسح بنك أوف أمريكا حدوث ركود عالمي في الاثني عشر شهرا المقبلة وهذه أعلى قراءة مسجلة من هذا النوع منذ عام 2011.

وفي الأسبوع الماضي، قال بنك جولدمان ساكس إنه لم يعد يتوقع أن تتوصل واشنطن وبكين لاتفاق تجاري قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية في عام 2020 وإن احتمالات حدوث ركود نتيجة الحرب التجارية طويلة الأمد تتزايد.