يحاول كثير من المراقبين للأزمة العالمية وحتى البعض من مراكز الدراسات و البحث وكذلك النخب الحاكمة في العديد من الدول حول العالم ومنها منطقتنا الشرق الأوسط ، إرجاع سبب الأزمات العالمية وتداعياتها على مجتمعاتنا وشعوبنا ودول المنطقة إلى الجانب أو الحقل أو الساحة الاقتصادية والمحاولة بإصرار في جعل محور مركز التداول والنقاش وإيجاد آليات الحماية والحل هو الاقتصاد وخاصة مع الأزمة الأوكرانية و تداعياتها السلبية على الأمن الغذائي العالمي ومتطلبات الطاقة الدولي، دون الأخذ بالجوانب الأخرى المهمة في الحياة التي تتساوى مع الجانب الاقتصادي أو تتفوق عليها من حيث الأهمية والفعالية و التأثير البنيوي في الحياة واستقراره وحتى أنه من الممكن أن تكون هذه الجوانب الأخرى كالديمقراطية وبجوانبها السياسية والاجتماعية والأخلاقية وغيابها في الذهنية والسلوك والمقاربة والحل هي السبب في الأزمات الاقتصادية وضعف الأداء لمواجهتها و إيجاد الحلول لها.
من المهم ذكر أنه حتى بعض المنظرين التاريخيين للمادية والاقتصاد السياسي وفي مراحل حياتهم النهائية أشاروا إلى القصور في تناولهم القضايا والأزمات لعدم اهتمامهم الكافي بالجانب الاجتماعي وتركيزهم فقط على الجانب الاقتصادي والمادي، فكان هناك ضعف في التناول وقصور في ظهورِ الإنسانِ الحر والمجتمع الديمقراطي، نظراً لعجزِهم عن تخطي التمييزِ بين الذات والموضوع وركونهم لاستعمال أدوات ووسائل الاحتكارية الرأسمالية العالمية والاعتماد عليها من الوسائل السلطوية-الدولتية وأجهزتها وسلوكها.
تحاول بعض القوى السلطوية-الدولتية إبراز الجانب الاقتصادي في أزمات المنطقة والدفع بخلق وعي وتصور ناقص أن السبب الرئيسي والوحيد للأزمة والحل هو الاقتصاد ومحاربة الفساد والتحكم بالدورة الاقتصادية للمجتمع وجعلها وفق متطلبات أجهزة الدولة وقواها الرئيسية وبيروقراطيتها المتضخمة دون أي اعتبار للمجتمعات والشعوب و للاقتصاد المجتمعي التي تحاول كل الأنظمة السلطوية-الدولتية إضعافه لإزالة إحدى نقاط القوى لدى المجتمع، وهنا علينا الإشارة إلى محاولة ضياع بوصلة الحقيقة في التركيز فقط على أحدى الجوانب الأساسية وترك الجوانب الاخرى وأيضاً من الأهمية الانتباه إلى الفرق بين الاقتصاد بشقيه السلطوي-الدولتي من جهة وبالاقتصاد المجتمعي-الديمقراطي من الجهة الثانية.
فالاقتصاد السلطوي-الدولتي أو الاقتصادوية لها أهدافها الرئيسية ومنها:
1- الحصول على الربح والقيمة الأعظمية بأية طريقة وثمن دون الاكتراث للطبيعة والحياة البيئية المستقرة واحترامها وبالتالي ظهور قضايا المناخ والبيئة والتلوث والتصحر والأمراض وتهديد الحياة البشرية والطبيعة.
2- تأمين موارد وأصول وسيولة لأجهزة الدولة القمعية والسلطوية لممارسة مزيد من السلطوية والتغول والهيمنة محلياً وإقليماً وعالمياً، كون النظام المهيمن العالمي هو أحد اشكال الهيمنة الاقتصادية وتكثيفها على الموارد الاستراتيجية في العالم كالنفط والغاز والطاقة بشكل عام علاوة على المواد والجوانب الأخرى الاستراتيجية.
3- حرمان المجتمعات والشعوب من امتلاك الاقتصاد الذاتي وفتح بنى المجتمعات والشعوب والأمم للاستغلال والهيمنة لصالح القوى التابعة للاحتكارية الرأسمالية العالمية.
أما الاقتصاد المجتمعي الديمقراطي فتدور أهدافه الرئيسية:
1- تأمين الاحتياجات الاساسية للمجتمعات والشعوب، مع وجود توافق واحترام للبيئة والطبيعية.
2- توفير بنية أساسية وموارد وبالتالي بناء نقاط قوة للمجتمعات والشعوب في نضالات الحرية والديمقراطية لتحقيق التحول الديمقراطي في دول المنطقة والوصول لتطبيق الديمقراطية وبناء حالة الاستقرار الحقيقة القائمة على الدفاع الذاتي والسياسية الديمقراطية والاقتصاد المجتمعي الديمقراطي.
3- إعادة الاقتصاد إلى مكانته الطبيعية في رفد الحياة بالمعنى والمضمون الحر والمتساوي عبر ريادة للمرأة للأنشطة والفعاليات الاقتصادية، كأهم وسائل دمقرطة الاقتصاد ومجتمعيته وإبعادها عن الهيمنة الذكورية الاحتكارية الدولتية.
4- بناء الاقتصاد الذاتي كأحد حقوق المجتمعات والشعوب ورصف الطريق لامتلاك عناصر قوى ذاتية مساعدة ومؤهلة لبناء الحياة الحرة والديمقراطية والتخلص من التبعية، عبر الاتحادات التشاركية والجمعيات والكومونات والمجالس الاقتصادية المجتمعية الديمقراطية.
وهنا علينا تبيان أن الهيمنة والاستعمار والتحكم الاقتصادي من أخطر اشكال الاستعمار والهيمنة فكل مجتمع وشعب لا يملك حق التصرف في موارده واقتصاده وامكاناته المادية هو مجتمع وشعب قابل للإخضاع والاستغلال والتحكم به وإلحاقه بأمم الدول القومية الحاكمة الدولتية وتخريب هويته الذاتية وإنهاء ثقافته.
ولكن ورغم أهمية الجانب الاقتصادي في حياة أي مجتمع وشعب ودولة يبقى الجانب الأخر الهام الذي لا يقل أهمية على الجانب الاقتصادي وبل ربما يزيد عليه من حيث الأهمية المصيرية والحياتية هو الجانب السياسي والاجتماعي والثقافي وبشكل عام الجانب الديمقراطي أو ساحة حرية المجتمعات والشعوب أمام النظم السلطوية-الدولتية وخاصة تلك التي ظهرت في القرنيين الأخيرين من الدول والسلطات والتيارات القوموية والإسلاموية والجنسوية.
إن التوازن في الطرح المستقر والمحقق للأمان والسلام والحلول الديمقراطية يقتضي عدم إهمال أي جانب وبخاصة خلق الظروف والأجواء لتحقيق العيش المشترك والأخوة بين الشعوب والمجتمعات وضمان حقوقهم وحق كل الخصوصيات في العيش وفق ثقافتها وإدارة مناطقها وقيامهم بحماية أنفسهم وضمان ذلك في دساتير ديمقراطية تؤمن وتحقق الانتماء لكل التكوينات المجتمعية ومشاركتهم في القرار السياسي والاقتصادي ضمن الدولة التي يتواجدون فيها وبالتالي رصف الأرضية السياسية والاقتصادية والثقافية لوحدة طوعية و لتكامل كلياتي ديمقراطي في المنطقة ودولها.
في تركيا وغالبية دول المنطقة تخطأ المعارضة والموالاة بظنهم التركيز على الجانب الاقتصادي فقط فاتخاذ المعارضة في تركيا الازمات الاقتصادية فقط كأساس لها ليس اسلوباً صحيحاً، بالطبع الازمة الاقتصادية عميقة وتؤثر على الشعب، وهنا يمكن إظهار الأزمة الاقتصادية لفضح الحكومة وفشل سياساتها وأدائها، ولكن مالم تصبح تركيا ديمقراطية وما لم تحل القضية الكردية وقضايا الأمن والقضايا الأخرى على أساس ديمقراطي، يجب معرفة أن الأزمات الاقتصادية أيضاً لن تُحل، يعني من المهم أن تتوضح الديمقراطية والبرنامج الديمقراطي، عدا ذلك، لا يمكن أن تصبح المعارضة معارضة، إن القول” سأحل فقط الأزمة الاقتصادية و سأقضي على الفساد” هو خداع وتضليل للشعب، ولا معنى لهذا الشيء، لأنه مالم يكن هناك ديمقراطية، لن تُحل الازمة الاقتصادية ولن يتم القضاء على الفساد.
بالطبع مثل الحياة السياسية، يجب أن تصبح الحياة الاقتصادية أيضاً ديمقراطية، وهذان الجانبان للحياة لا ينفصلان عن بعضهما البعض، الشيء الأساسي هو تحقيق التحول الديمقراطي والديمقراطية في الجوانب والساحات السياسية والاجتماعية، وحينما فستصبح الساحة الاقتصادية أيضاً ديمقراطية ومحققة لمزيد من التطور والاعتبار والاستقرار.
وفي المنطقة إذا أريد إيجاد حل الأزمات والقضايا العالقة وخاصة في المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية والتعليم والرياضة، قبل كل شيء يجب أن يتم تحقيق الديمقراطية في المجالات السياسية والاجتماعية، حتى يتم إنشاء نظام ديمقراطي يستند إلى مجتمع ديمقراطي منظم، ولا يمكن حل أي مشكلة، إذا كانت الديمقراطية غير موجودة في السياقات النضالية والباحثة عن الحلول الديمقراطية ، وإذا كانت الديمقراطية لا تدير الشعب، حينها، يجب أن يكون الهدف هو إنشاء سياقات مجتمعية ومدنية وحكومات ديمقراطية اجتماعية في بلدان المنطقة يكون للناس فيها الحق في التحدث واتخاذ القرار.
وفي تركيا وسوريا وإيران والعراق ومعظم دول المنطقة لا يمكن أن يكون هناك حلول للأزمات والقضايا العالقة ولا يمكن أن يكون هناك اقتصادات قوية وذات تأثير وحضور محلي وإقليمي وعالمي مميز ومعتبر من دون تحقيق التحول الديمقراطي في هذه الدول وحصول كل المجتمعات والشعوب والتكوينات المجتمعية فيها على حقوقهم من دون تميز أو فرق بين لون أو دين او قومية أو مذهب في إطار اللامركزية والحلول الديمقراطية التي تجعل أي اقتصاد في نمو و تصاعد والجبهة الداخلية في ترابط وقوة متينة وتتحقق بذلك الاستفادة القصوى للدولة من طاقات كافة أبنائها ضمن جبهة سياسية واقتصادية مؤثرة وقادرة وفي اتحادات وتحالفات ووحدات ديمقراطية لكل مجتمعات وشعوب ودول المنطقة لتكون فاعلة وبقوة في مواجهة التحديات والمشاريع الإقليمية والعالمية التي تهدف إلى استمرار الفوضى وزيادة التقسيم و النهب والهيمنة على مجتمعات وشعوب ودول المنطقة.
وعندما يكون هناك حالة توافق وتفاهم مشترك بين ابناء المجتمع أو الشعب أو البلد الواحد، سيكون موقفهم أقوى في امتلاك قرارهم الاقتصادي والسياسي وعدم تركها للدول الإقليمية والعالمية التي حاولت السيطرة على القرارات الاقتصادية والبنوك المركزية والموارد الاستراتيجية لتحكمها بها وعبرها التحكم بالتيارات والحركات والتوجهات السياسية والاجتماعية وتوظيف تلك الأطراف المحلية في خدمة أجندتها مع حالة الفوضى والصراعات وضعف الدول المركزية الهشة أصلاً في المنطقة.
إن أحد الفواعل الأساسية في تغير اقتصاد المنطقة وملامح الشرق الأوسط و تحقيق التحول الديمقراطي في دول المنطقة وتحقيق الديمقراطية في المنطقة والشرق الاوسط هو الشعب الكردي وحركة حريته(حزب العمال الكردستاني(PKK) ومنظومة المجتمع الكردستاني(KCK) وقوات الدفاع الشعبي (HPG))، فعندما تقوم حركة الحرية بهزيمة هجمات الإبادة الجماعية الفاشية لسلطة حزب العدالة والتنمية(AKP) وحزب الحركة القوميةMHP)) وإحراز النصر، لن تتغير ملامح تركيا فقط، بل ستتغير ملامح المنطقة وخاصة الشرق الأوسط ، ستصبح تركيا دولة ديمقراطية مهمة في الشرق الأوسط بفضل مقاومة القوى الديمقراطية التي تواصلت وترابطت على مدار قرن، وعندما يتم هزيمة مركز الرجعية والإرهاب والإسلاموية أي العثمانية الجديدة والعمالة في الشرق الأوسط، ستفتح أبواب الديمقراطية في الشرق الأوسط حتى النهاية، وستعيش الشعوب والمعتقدات والأديان في الشرق الأوسط معاً بمشروع التنوير ووعي الحقيقة من أخوة الشعوب والتعايش المشترك، حيث سيتمكن كل شعب من العيش بحريته وثقافته معتقداته، والنساء بهويتها، وإرادتها، لذلك من الأفضل أن يعرف الجميع معنى وقيمة مقاومة حركة التحرر الكردستانية، التي تخوض كفاحاً فعالاً من أجل تحقيق ديمقراطية تركيا وبالتالي المنطقة بأكملها. وأهمية نصرها على العثمانية الجديدة التي تحاول ابتلاع المنطقة وشعوبها ودولها ونشر الإرهاب والفوضى فيها. ومع هزيمة الفاشية التركية العثمانية الجديدة، ستبدأ مرحلة جديدة في المنطقة وخاصة في الشرق الأوسط، إذا أصبحت تركيا ديمقراطية على أساس حرية الشعب الكردي والشعوب المتعايشة معه، وكما يبين القائد والمفكر عبد الله أوجلان، أن المغزل الكردي سيستمر في الدوران وسيوصل الشرق الأوسط إلى الحضارة الديمقراطية عبر الأمة الديمقراطية واتحاد الأمم الديمقراطية والكونفدرالية الديمقراطية لشعوب الشرق الأوسط.
وهكذا فإن الديمقراطية والاقتصاد جانبان ومرتكزان مهمان لبناء الحياة الحرة والديمقراطية والاقتصادية لمجتمعات وشعوب ودول المنطقة ولا يمكن إغفال جانب على حساب الأخر فكل جانب يتمم ويكمل الأخر، ويمكن إنجاز حالة الاستقرار والأمن والسلام المرادة عبر مزيد من العمل المستمر لتحقيق الديمقراطية والاقتصاد المجتمعي الديمقراطي أو الاقتصاد الذاتي بريادة المرأة الحرة والشباب وإزالة العراقيل أمام تلك الأهداف النبيلة بتجاوز الأفكار والسلوكيات الأحادية، النمطية و الاقصائية، كالمقاربات الاقتصادوية و القوموية والإسلاموية والجنسوية والجنتوقراطية التي ليس لها علاقة بثقافات والتقاليد الديمقراطية لمجتمعات وشعوب المنطقة الأصيلة كالعربية والكردية وغيرهم وسبل تأمين احتياجاتها الأساسية منذ قرون، ويظل تواجد الديمقراطية والاقتصاد أو غيابهما سببا الأزمة وطريقا الحل.