الخبر العاجل: أحدهما في حالة خطرة.. إصابة طفلين في قرى الشهباء إثر قصف جيش الاحتلال التركي

جميل بايك: مشروع الحل الوحيد يتمثل في "الأمة الديمقراطية" و "الكونفدرالية الديمقراطية"

أكد جميل بايك أن القائد أوجلان شخصية مختلفة، فهو تعدى كونه مجرد شخص وأصبح يمثل شعباً بأكمله، وبنموذج الأمة الديمقراطية والكونفدرالية الديمقراطية أثبت أن حل جميع القضايا في الشرق الأوسط يكمن في جوهرهما.

صدر عن دار المحروسة المصرية كتاب جديد تحت عنوان: "عبد الله أوجلان.. مسيرة نضالية تحدت الصعاب وإبداع فكري تخطى الجدران" حول مسيرة القائد أوجلان ونضاله وفلسفته والمؤامرة الدولية التي تعرض لها ووضعه الحالي. لمجموعة من السياسيين والمثقفين أعضاء المبادرة العربية لحرية القائد أوجلان.

وتضمن الكتاب لقاء مع السيد جميل بايك، الرئيس المشترك للمجلس التنفيذي لمنظومة المجتمع الكردستاني (KCK) حالياً، وأحد المشاركين في المؤتمر التأسيس لحزب العمال الكردستاني عام 1978، فيما يلي الجزء الأول من الحوار:

1- متى وكيف تعرفتم على القائد أوجلان؟ كيف كان انطباعكم الأول خلال لقائكم الأول معه؟ كيف تطورت علاقتكم؟

إن السنوات التي تعرفتُ فيها على القائد آبو، هي السنوات التي كان فيها لنضال تحرير فلسطين تأثير كبير على كافة الشعوب المناضلة في منطقة الشرق الأوسط عموماً، وعلى شعبَي تركيا وكردستان خصوصاً. كان هناك ثوار من الحركة الثورية في تركيا ذهبوا إلى فلسطين في أوائل السبعينات. والذين تركوا بصماتهم على تلك المرحلة هم: ماهر جايان، دنيز غزميش، وإبراهيم كايباكايا؛ إذ كانوا من الشخصيات الرائدة في الحركة الثورية في تركيا. خلال تلك السنوات، كان القائد آبو يدرس في كلية العلوم السياسية في أنقرة. وكان متعاطفاً مع ماهر جايان ورفاقه، الذين كانوا ثواراً عظماء ومن رواد الحركة الثورية في العام 1971 في تركيا. حتى إنه لعب دوراً ريادياً في الأنشطة المنظّمة استذكاراً لـ "ماهر جايان" -الذي استشهد مع رفاقه التسعة في قزل دره في 31 آذار/مارس 1972- واعتُقِلَ على إثرها. ثم أخبرَنا لاحقاً أنه كان في حالةِ تمعّن وتركيز كبيرَين خلال فترة اعتقاله البالغة 7 أشهر. في نفس الفترة، كنتُ، أنا أيضاً، أدرس في كلية اللغة والتاريخ والجغرافيا في أنقرة. وكان رفيقنا كمال بير أيضاً طالباً في نفس الكلية التي درستُ فيها؛ وهو أحد القادة المؤسسين لحزبنا، ومن رواد شهداء الإضراب حتى الموت عن الطعام في سجن آمد (ديار بكر) عام 1982، ومن سكان البحر الأسود، وهو تركيّ الأصل.

تعرّفتُ على القائد آبو في أنقرة عام 1974. وكان الرفيق كمال بير هو مَن عرّفني عليه، إذ أخذني إلى منزل القائد آبو، والذي كان يقيم فيه كمال بير أيضاً. هكذا تعرّفتُ على القائد آبو. أستطيع التعبير عن الانطباع الذي تركه القائد آبو في نفسي خلال لقائنا الأول على النحو التالي: كان هناك العديد من الشخصيات التي أعرفها، وكان لديّ علاقات ونقاشات مع الكثيرين. لكن، عندما رأيت القائد آبو لأول مرة، أدركتُ حقاً، وعلى الفور، أنه شخصية مختلفة. ويمكنني القول بكل سهولة أنه في هذا اللقاء الأول، تشكّلَ لديّ انطباع عنه بأن شخص جدي للغاية، وحازم، وصاحب عزيمة، ومتواضع جداً، لكنه منضبط للغاية، وجدير بالثقة. في اليوم التالي، سألني الرفيق كمال بير في الجامعة: كيف رأيتَ القائد آبو؟ كيف تُقَيّمه". فقلتُ له ما معناه: مَن هذا الذي عرَّفتَني عليه؟ وما الداعي لذلك؟ بالطبع، تأثر الرفيق كمال بير للغاية من كلامي، وأصيبَ بالإحباط. ذلك أنه كان يقيم مع القائد آبو في نفس المنزل، وكان صديقاً صدوقاً له يثق به دون تردد، لدرجة أنه قال أمام المحكمة العسكرية أثناء إضرابه عن الطعام حتى الموت: إن تحرير الشعبَين التركي والكردي سيتحقق بريادة القائد آبو. في حقيقة الأمر، شعرتُ بالحزن لأنني أغضبتُ الرفيق كمال بير، إذ كنتُ قلتُ له ذلك من باب المزاح. ثم أتذكر جيداً أنني قلتُ له: لماذا لم تُعرّفني على القائد آبو وتأخذني إليه قبل ذلك؟ لقد كان لقائي الأول مع القائد آبو كافياً كي نصبح رفاق الدرب طيلة 50 عاماً. بعد ذلك، واصلنا عملَنا الجماعي مع القائد آبو، كمجموعة الآبوجيين أولاً، ثم كمجموعة ثوار كردستان.

2- أنتم أحد المؤسسين الخمسة لحزب العمال الكردستاني مع القائد أوجلان. واليوم أنتم تشغلون وظيفة الرئيس المشترك لمنظومة المجتمع الكردستاني. وعلى حد علمنا، فإن هذا النظام الاجتماعي يتشكل بناءً على فلسفة وأفكار القائد أوجلان. فهل حدث أي تغيير أو تطور في أفكار السيد أوجلان خلال تاريخكم النضالي الممتد 50 عاماً؟ وإذا كان هناك تغيير، فماذا حدث؟

كل إنسان هو نتاج العصر الذي يعيش فيه. إذ تؤثر الظروف الاجتماعية التي يعيش فيها الإنسان، والوضع الإقليمي والدولي، بشكل كبير على طريقة تفكير الشخص وعلى آرائه. لكن الإنسان العظيم هو ذاك الذي يستطيع أن يُقَيّم العصر والمرحلة التاريخية التي يعيشها بدقة وعمق شامل ومتعدد الأوجه، وان يلعب دوراً فعالاً في توجيه مسار تطور العصر والمرحلة التاريخية. من المعلوم أنه كان هناك مثل هذه الشخصيات في التاريخ فالأنبياء هم هكذا أولاً. وهكذا هم الأشخاص العباقرة من القادة العسكريين والسياسيين العظماء الذين أصبحوا شخصيات دولية. ونحن ننعتُ القائد آبو بهذا الشكل. فهو حقاً باحث عظيم عن الحقيقة. ويمكنني القول بكل تأكيد أنه صاحب إصرار وعناد شديدَين في هذا الشأن، ولا يعرف حدوداً في كفاحه.

كانت فترة عشرينيات القرن العشرين هي السنوات التي ظهرت فيها الاشتراكية في العالم وتصاعدت طردياً ضد الإمبريالية. وكانت الثورة السوفييتية العظمى عام 1917، وحركات التحرر الوطني التي تعاظمَت ككُرة الثلج في جميع أنحاء العالم، وخاصةً النضال التحرري الوطني في فيتنام وفلسطين؛ كانت بمثابة تطورات حَدَّدَت ما ينبغي أن يكون عليه الثوريُّ في ذاك الوقت. وقد بدأ القائد آبو النضال ضد الإمبريالية الرأسمالية للعالم ثنائي القطب، من خلال تَبَنّيه الأيديولوجية الاشتراكية. لكن ابتعاد الاشتراكية المشيدة تدريجياً عن قيمها الروحية، وانزلاقها أكثر نحو المادية والدولتية والدوغمائية، أدى إلى تطور وعي البحث والتساؤل لدى القائد آبو، مثلما الحال لدى العديد من الأشخاص والأوساط. وفي النتيجة، شوهدَت كيف انهارت الاشتراكية المشيدة. وفي مواجهة واقع الاشتراكية المشيدة المنهارة، بات واضحاً أنه من غير الممكن اعتماد نفس الخطاب والأساليب والأدوات في إنشاء مجتمع بيئي وديمقراطي وملتف حول حرية المرأة. وفي الأصل، فقد سادت وطغَت عقلية الدولة والسلطة في الاشتراكية المشيدة، أكثر من سيادة حرية المرأة والمجتمع الديمقراطي الحقيقي والصداقة مع البيئة. وبعد انهيار الاشتراكية المشيدة، ساد لدى الكثير من الناس والأوساط عدم الإيمان بالاشتراكية، والقناعة بعدم جدوى النضال المثمر والموفق ضد الرأسمالية. هكذا، فإن العديد من المنظمات، إما أنها انحلّت أو حلّت نفسها، وعانت العديد من الشخصيات الثورية من فراغ أيديولوجي ناجم عن الخيبة. لكنّ ما انهارَ وتفكك لم يكن الاشتراكية. بل انهارت الاشتراكية المشيدة كمحاولة أولى التفّت مبكراً وتماماً حول الدولة والسلطة. ينبغي أن أقول إن القائد آبو أدرك ذلك باكراً وسريعاً، فشرع في عمليةِ بحث عظيم، وأكد على ضرورة اعتماد الديمقراطية والحرية أساساً، بدلاً من الشعارات القديمة الفظة والدوغمائية مثل ديكتاتورية البروليتاريا، وأن المطرقة والمنجل الموروثَين من الاشتراكية المشيدة لا يشكلان كل شيء، بل وأنهما ليسا من المُسَلّمات الثابتة، لأن النظام الذي يمثله هذان الرمزان قد انهار. بالتالي، ما كان ممكناً تطوير الأيديولوجيا والرؤية وأساليب النضال اللازمة لأجل المرحلة التاريخية، من دون استخلاص الاستنتاجات الكبرى من الفترة التاريخية التي شهدت انهيار الاشتراكية المشيدة، ومن دون إجراء تحليل شامل ومعمق للاشتراكية المشيدة. أجل، إذا كان لابد من الحديث عن التغيير، فإن القائد آبو هو أول مَن رآه وأدركه ونفّذه. ذلك أن عدم إجراء التغييرات اللازمة عند الضرورة، مع مراعاة الحفاظ على الأهداف والمبادئ، إنما يعني الدوغمائية. ولهذا يقال إن الشيء الوحيد الثابت هو حقيقة التغيير. بعدما تم اعتقال القائد آبو نتيجة مؤامرة دولية، وعاش ظروف الأَسْر في جزيرة إمرالي، فإنه لم يفقد شيئاً من تعمقه الكبير. بل على العكس، فقد قال: "إذا كان هذا العالَم لا يقبلني (ويقصد بذلك نظام الحداثة الرأسمالية المهيمنة)، فما عليّ سوى تحليل هذا العالم". وابتدأَ التاريخ من السومريين، وطوّرَ تحليلات وتقييمات شاملة. وحلّلَ تاريخنا النضالي المليء بالتجارب الغنية. ومع الاستنتاجات التي استخلصها منها جميعاً، واحتراماً منه للحقيقة، دَوَّنَ المرافعات التي سَمّاها "ولادتي الثالثة" في إمرالي، وأهداها للمقاتلين في سبيل الحقيقة وللشعوب المناضلة. هكذا كان ردُّ القائد آبو على كل القوى المتآمرة، التي زعمَت قائلة: "سنقضي عليه وسنهزمه في إمرالي"، باتخاذه مثل هذا الموقف التاريخي في أصعب ظروف الأَسْر، وبتطويره نظرية "الحداثة الديمقراطية" في مواجهة "الحداثة الرأسمالية".

3- لقد كانت لديكما، أنتم والقائد أوجلان، علاقات جيدة مع الفلسطينيين وبعض الشخصيات والقوى العربية الأخرى. ما هي أبرز الفترات في علاقاتكما في تلك المرحلة؟ وماذا تقولون لأجل الفلسطينيين اليوم؟

هذا صحيح. كان لي وللقائد آبو العديد من الأصدقاء الفلسطينيين والعرب. وقد أصبحت علاقاتنا مع الشعب الفلسطيني والحركات الفلسطينية مهمة لدرجةِ تحديد جدليةِ التطور في نضالنا. فقد حدثَ الانقلاب العسكري في تركيا في 12 أيلول/سبتمبر 1980، وأُعيدَ احتلالُ (شمال) كردستان حرفياً من أدناها إلى أقصاها. إذ تم حرق وتدمير القرى، وتهجير شعبنا قسراً، ومرّ نضالنا بمرحلة صعبة حقاً، وزُجَّ بمئات الآلاف من الكُرد في الزنزانات. واعتُقِلَ الآلاف من كوادر حزبنا والمتعاطفين معه والعشراتُ من رفاقنا الكوادر القياديين. ومثلما هاجرَ سيدنا محمد من مكة إلى المدينة المنورة، بات لا مفر لنا من هجرةٍ تُمَكّننا من الالتقاء بشعبِ بلاد كنعان، أي بالشعب الفلسطيني. بدأَ القائد آبو هذه الرحلةَ بمفرده، وطوَّرَ علاقاتٍ تاريخية ثمينة للغاية مع المنظمات الفلسطينية والمجتمع الغربي، أكان في دمشق أو في لبنان (كنا نسمي تلك المنطقة فلسطين). كانت لدينا علاقات مع جميع المنظمات الفلسطينية تقريباً: إذ عقدنا العلاقات مع فتح، والجبهة الشعبية الديمقراطية الفلسطينية، والجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين، جبهة النضال، والصاعقة وغيرها. وطوَّرنا علاقاتٍ حميمة ومحترمة مع قادة تلك التنظيمات ومع كوادرها الطليعيين. وتلقَّت كوادرنا الحزبية، التي سحبناها إلى خارج الوطن، تدريباتِها في معسكرات المنظمات الفلسطينية في مناطق: حلوة، بيروت، صيدا، صور، والنبطية. كانت علاقاتنا حقاً مبنيةً على الصداقة والروح الثورية والأممية. وفي الحرب التي شنتها إسرائيل ضد القوات الفلسطينية في لبنان في حزيران/ يونيو 1982، خاصةً في النبطية وصور؛ استشهد 13 من رفاقنا في الاشتباكات مع القوات الإسرائيلية. وبعض رفاقنا وقعوا أسرى بيدهم، فلم يتمكنوا من العودة إلى حزبنا ثانيةً إلا عن طريق الصليب الأحمر في البلدان التي أُرسِلوا إليها. كنتُ موجوداً أثناء حصار بيروت في حرب 1982. وإنْ لَم أكُن مخطئاً، فقد كان ياسر عرفات وبعض القادة الفلسطينيين، بمَن فيهم نايف حواتمة وجورج حبش أيضاً، كانوا موجودين أثناء حصار بيروت. ولاحقاً، عندما صدرَ قرارُ إخلاء بيروت بإشراف الصليب الأحمر، توقفَت الحرب، ووصلنا نحن إلى أماكننا. لا يمكنني القول إن تلك المرحلة كانت نقطة انكسار بالنسبة للشعب الفلسطيني، ولكنها، بلا شك، كانت بدايةً لسياقٍ تاريخي جديد وشاقّ للغاية. ما أعنيه هو أنه لدينا مثل هذه الشراكة القَيّمة جداً مع الشعب الفلسطيني والوحدة في النضال مع النضال الفلسطيني.

إننا في حالة حرب وصراع ضد الدولة التركية الاحتلالية، التي تمارس الإبادة الجماعية بحقنا منذ 50 عاماً. وقد قدّمنا أكثر من 50 ألف شهيد خلال سنوات الحرب والصراع هذه، وتم نهب وحرق وتدمير أكثر من عشرة آلاف قرية، وتهجير الملايين من الكُرد قسراً، وإبعادهم عن أراضيهم. وما يزال القائد آبو معتقلاً وأسيراً في السجن منذ 25 سنة. وباعتبارنا أصحابُ نضال كهذا، فإننا، بالطبع، نتعاطف مع الشعب الفلسطيني، وقادرون على فهم آلامه وتطلعاته بنحو أفضل. ونحن نعلم أن الشعب الفلسطيني عانى، وما يزال يعاني، مخاضاتٍ جسيمة، وتعرَّضَ للمجازر عشرات المرات، بما فيها مجزرة صبرا وشاتيلا. وما يزال ملايين الفلسطينيين لاجئين. إنه شعب يقاوم باستمرار، ولا يتردد في التضحية. وعلى رغم ذلك، فإن حقيقة أن القضية الفلسطينية ما تزال دون حل، هي بالطبع حالةٌ مؤلمة، وتحتاج إلى المساءلة.

فهل القضية الفلسطينية هي حقاً مجردُ قضيةِ بناءِ دولة؟ لا شك أن هذا أيضاً يمكن أن يكون حلاً، ويسمى "حل الدولتين". فإذا كان الشعبان الفلسطيني واليهودي سيُسعَدان بنموذج الحل هذا، فلِمَ لا؟ ونحن، بالطبع، لسنا ضد ذلك. بعد تبيانِ موقفنا هذا، أود أن أُلخّصَ بإيجاز رؤيةَ القائد آبو إلى مشكلة الدولة، نظراً لارتباطها بالموضوع. فكما هو معروف، فقد تم إرسال لويس السادس عشر، ملك فرنسا، إلى المقصلة، باسم إقامة الدولة القومية. في حين أُعدِمَ صَدّام حسين باسم حمايةِ الدولة القومية. أي أنه تم إعدامه نتيجةً لأفعاله، رغم أنه كان يكافح من أجلها، ويعيش بعقليتها. ومعلومٌ كيف أن الدول الأوروبية (ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها) ظلت تتحارب لعقودٍ باسم الدولة القومية. إن حروب الست سنوات والعشر سنوات والثلاثين سنة هي حروب الدول القومية الأوروبية. وقد فقدَ مئاتُ الآلاف من الأشخاص أرواحهم في تلك الحروب. والآن يتم التحدث عن الحدود الأوروبية والقيم الأوروبية المشتركة وعن الاتحاد الأوروبي. أما في الشرق الأوسط، فإن العقلية نفسها عانت، وما تزال تعاني من مشاكل ومآسٍ أشد وطأةً وبشكل متأخر لبضعةِ قرون عمّا كانت عليه في أوروبا. ما يتجلى هنا هو أنه: أينما كثرَت الدول، كثرَ هناك القمع والظلم وسفك الدماء والمجازر. أي: المزيد من الدولة يعني المزيد من القمع والمزيد من الحروب. هذا صحيح تماماً.

لقد قسّموا المجتمع العربي إلى 22 دولة. وقد فعلَ الغربُ هذا عمداً بزعامة إنكلترا: لِتَكُن هناك 22 دولة متصارعة ومتناقضة ومتنازعة، كي تُتعِبَ وتُرهِقَ بعضها بعضاً، وتبقى محتاجة إلينا أكثر. لقد نفّذوا سياساتٍ واستراتيجيات كهذه. ما أود قوله هو التالي: إن الأصح هو الدفاع عن الكونفدرالية الديمقراطية المتأسسة بنموذج الأمة الديمقراطية أو حتى اتحاد الأمم الديمقراطية، والإصرار عليها كنموذجِ حلّ. إني أقول إن البشرية تتجه فعلاً نحو هكذا سياقٍ كضرورة لا مفر منها. وهذا ما يعني أنه عندما ستنظر البشرية إلى الوراء بعد مرور 50 عاماً وتتذكر هذه الأيام، فإنها ستقول، على وجه اليقين: كم كانت حروب الدول القومية هذه غير ضرورية ولا معنى لها.

4- هل بمقدوركم أن توضحوا لنا مضمون مشروع السيد أوجلان بخصوص حل القضية الكردية وقضايا الشرق الأوسط، وبشأن بناء الحياة الحرة؟

في الواقع، كل القضايا التي طرحتموها في السؤال مترابطة ومؤثرة ومكملة ومرهونة ببعضها بعضاً. أي أنه لا يمكن حل إحدى هذه القضايا من دون ربطها بالأخرى. مع ذلك، وإذا أردتُ التطرق إليها واحدةً تلو الأخرى، فيمكنني قول الآتي بخصوص القضية الكردية: إن القضية الكردية، وقبل كل شيء، هي قضية تاريخية. فالكُرد هم من السكان القدامى في هذه الأراضي. ومن المعلوم أولاً أن الإمبراطوريتَين العثمانية والإيرانية (الصفوية) تقاسمتا كردستان فيما بينهما، مع توقيعهما على اتفاقية "قصر شيرين" في العام 1639. هكذا انقسمت كردستان مع هذه الاتفاقية إلى قسمَين. كما طوَّرَ الإنجليز سياسةً واستراتيجيةً معينة في عشرينيات القرن العشرين. ووفقاً للسياسة الكردية التي طوّرها الإنجليز، كان يجب أن يبقى الكُردُ بلا دولة. وعلى هذا الأساس، ومع توقيع "معاهدة لوزان" عام 1923، تم تقسيم كردستان هذه المرة إلى أربعة أجزاء. هكذا، بسطَت كلٌّ من تركيا وإيران والعراق وسوريا نفوذها وحكمَت الجزءَ الخاص بها من كردستان. إن تفكيك الوحدة الوطنية لشعبٍ ما، أَشبَهُ بإصابةِ الإنسان بانهيار عقلي. بعد ذلك، أصبح كل جزء من كردستان قائماً بذاته ولذاته، وبطبيعة الحال، تعرّضَت الوحدة الوطنية والروح الوطنية وردود الفعل المشتركة بين الكرد للتآكل والتفسخ إلى حد كبير. ونخص بالذكر الدولة التركية، التي طبَّقَت على الكرد سياسةَ الاحتواء والصَّهر والدمج بشكل مكثف وقمعيّ ولاأخلاقي للغاية. وانطلاقاً من هذه السياسة، اعتَبَرَت الكُردَ غير موجودين كلياً، وسعَت إلى القضاء على الناجين من الإبادات الجماعية الجسدية، من خلال احتوائهم وصَهرهم. لهذا السبب، برزت القضية الكردية فعلياً كقضيةٍ وجودية. وهذا، بلا شك، وضعٌ مجحف ومُخزٍ للغاية بالنسبة للشعب الكردي، الذي هو أحد أقدم الشعوب في التاريخ. فقد بدأنا النضال بالعمل أولاً على إثباتِ وجودِ الكرد. وكان هذا الوضعُ قاهرٌ للغاية.

ثانياً؛ ما من ريب في أن القضية الكردية هي قضية دولية. وبادئ ذي بدء، فهي تؤثر مباشرةً على أربعِ دولٍ بشعوبها. بالتالي، فإن القضية الكردية هي في المقام الأول قضية إقليمية، أي شرق أوسطية، وأصبح حلها حاجةً ماسّةً اليوم. وبالطبع، هناك أيضاً القضية الفلسطينية، والتي هي، كما ذكرتُ سابقاً، قضية شرق أوسطية بامتياز. ولا شك أن مَن خلقَ هاتَين القضيتَين، هم قوى الهيمنة العالمية. وهذه القوى هي التي لا تريد حل هاتَين القضيتَين. فكلنا نعلم أن الحداثة الرأسمالية لا تميل إطلاقاً إلى استتباب الحل والاستقرار. بل طالما كان افتعالُ الأزمات والحروب التي يمكن السيطرة عليها وإدارتها يمثل سياستها الحقيقية. هذه هي الحقيقة الأساسية الكامنة وراء العقم واللاحلّ الذي تعاني منه القضيتان الكردية والفلسطينية.

إذا ما عدنا ثانيةً إلى القضية الكردية، فمن المؤكد أنه كلما كانت القضية معقدة وصعبة الحل، كلما كان تأثيرها إيجابياً وعظيماً على المنطقة وشعوب الجوار عندما يتم حلها. من هنا، فإن الصعوبات التي نواجهها في حل القضية الكردية، وكذلك التطورات والفرص الكبرى التي ستظهر مع حل القضية الكردية، إنما تنبع من خصائصها هذه.

لا يمكن أن يكون هناك أربع دول في أربعة أجزاء. وبالأصل، فهذا ليس صحيحاً، ولا ديمقراطياً، ولا ممكناً. كما إن جمعَ الكُردِ الموجودين في الأجزاء الأربعةِ معاً في دولةٍ مطلقة، ليس بالأمر الواقعيّ، ولا يتوافق مع رؤيتنا أيضاً. لقد حلَّلَ القائد آبو الدولةَ بنحو شامل للغاية. هناك العديد من البلدان التي يَسودُها نظام المُلوكية أو السلطنة أو الإمارة. لكنها شعوبها ونساءها وشبابها ليسوا متفائلين ولا سعداء ولا أحرار على الإطلاق. وحسب رؤيتنا، يمكن للشعوب أن تعيش هويتها بكرامة وديمقراطية وحرية من دون دولة. بناءً عليه، يمكن للكُرد أن يعيشوا جنباً إلى جنبٍ مع الشعوب العربية والفارسية والتركية، في ظروفٍ تسودها الديمقراطية والحرية والمساواة. ونحن نسمّي ذلك بـ "الأمة الديمقراطية". لا شك أن الدولة ستكون موجودة. أي أنها لن تكون دولةً استبدادية أو قمعية، بل دولةً أكثر حساسيةً إزاء الديمقراطية. المهم هنا هو أن نعيش معاً حياةً تسودها الديمقراطية والمساواة والحرية وصداقة البيئة، وتكون ملتفة حول حرية المرأة. وهذا ما نسميه "الكونفدرالية الديمقراطية".

إن بناء الحياة الحرة أيضاً، لا يمكن تحقيقه إلا بهذا المنظور والإرشادات. فهذه الأراضي هي الأراضي التي حدثت فيها أول ثورة ذهنية. وجذور الحياة التشاركية والتقاليد والروح المجتمعية مخفية في هذه الأراضي. وما تزال القيم المجتمعية والديمقراطية منتعشة فيها. من هنا، فإن بناء حياة حرة بوعيٍ وخبرةٍ تاريخيَّين هو أمر ضروري تماماً بقدر حاجتنا إلى الخبز والماء لنعيش، وهو أمر ممكن حقاً. إن التضامن الاجتماعي والقيم والتقاليد المجتمعية قوية ورصينة في وجه الفردية الأوروبية. ويمكننا، بالتأكيد، بناء حياة حرة، كلما رفعنا من قيمنا الأخلاقية والمعنوية ضد العقلية المادية الأوروبية. ولا شك أن تشكيل الكومينات والتعاونيات وتأسيس الأكاديميات التعليمية لأجل التوعية الديمقراطية، وتنظيم المجالس الشعبية الديمقراطية؛ يعني، بطبيعة الحال، بناء جوهر الحياة الديمقراطية. وهذا هو جوهر رؤية القائد آبو.

لا شك أنني أرى منظور حل مشاكل الشرق الأوسط في هذا السياق. فهي المنطقة التي ظهرت فيها الديانات السماوية، ولعبت دوراً رئيسياً في تطور البشرية على مر آلاف السنين. وعلى رغم أن أوروبا تبدو اليوم أنها "المركز"، وأن الشرق الأوسط هو "الأطراف"، إلا إنه يجب أن أشير إلى أن الشرق الأوسط ما يزال يتمتع بالمعرفة والإمكانات اللازمة لتحديد مسار مستقبل البشرية. ومهما تفشّت وتكاثفت المشاكل العقائدية والأثنية وغيرها، إلا إن ذلك لا يقلل من أهمية الدور الرئيسي لمنطقة الشرق الأوسط في تطور البشرية. إذ من المعروف أن أوروبا هي مصدر كل الشرور. لاريب في أن بعض القيم الديمقراطية قد ظهرت في أوروبا حصيلة قرون طويلة من النضال. لكن هذا لا يعني أن الحداثة الرأسمالية، التي تمثلها أوروبا، ليست في حالة انحلال وتفسُّخ تامَّين من النواحي الأيديولوجية والأخلاقية والحياتية. إذ بات جلياً أن النزعة الاستشراقية لن تكون أبداً حلاً لأيةِ مشكلة بعد ارتطامها بجدار وعي الشعوب المناضلة والناهضة في الشرق الأوسط. بهذا المعنى، فإن نضال الحداثة الديمقراطية في وجه الحداثة الرأسمالية ذو معانٍ سامية. ولا شك أن الشرق الأوسط ستكون المنطقة الجغرافية التي ستحيا فيه هذه الرؤية أولاً. لهذا السبب، فمن المهم استيعاب رؤية الحداثة الديمقراطية بشكل صحيح وكامل، والمثابرة في النضال لأجل إحيائها وتكريسها. وبادئ ذي بدء، لا بد من الابتعاد كلياً عن التطرف بكافة أنواعه. فكما ذكرنا، فإن هذه الجغرافية هي مهد الديانات السماوية، التي تنصّ جميعها على المحبة والسلام والتسامح. في حين أن كل شيء يفسد، عندما يُستَخدَم كأداةٍ للسلطة. وإلا، فلماذا لا تعيش مختلف الأديان معاً بتآخٍ وبنحوٍ ديمقراطي؟ والحال هذه، جليٌّ تماماً عدم الحاجة للتطرف الديني. ثانياً، التطرف العرقي. لقد حاولت سرد بعضِ الأمثلة من التاريخ. فالتطرف العرقي هو أيديولوجية إبادة وتسميم المجتمعات لبعضها بعضاً. ومن الممكن بسهولة رؤية وإدراك مدى خطورة ذلك، أكان من خلال التجارب التاريخية، أو مما يحدث في المنطقة في راهننا. ولهذا السبب نحن ننادي بـ "الأمة الديمقراطية" في وجه كل أنواع التطرف القومي والعرقي. ثالثاً؛ التطرف العلمي. فالعلم الوضعي، الذي يعتمد تعلُّم كل شيء من خلال العلم البحت فحسب، هو، بالتأكيد، تطرف يضع النزعة العلموية، التي تكاد تجعله عقائدياً ودوغمائياً، فوق كل القيم الأخلاقية والمعنوية. وهو بذلك خطير بما يكفي لتجميد العقل وإضعاف الإبداع البشري. رابعاً؛ التمييز القائم على النوع الاجتماعي. ومن الواضح أنه تطرف قائم على الهيمنة الذكورية. إن المقاربة السلطوية إزاء المرأة، التي تمثل نصف المجتمع البشري، ليست أخلاقية ولا ديمقراطية. بالتالي، ينبغي ألاّ ننسى أن حرية المرأة ركيزة أساسية لتمكين حرية البشرية وبناء الحياة الديمقراطية. بعد كل هذا، أستطيع القول أنه يجب على منطقة الشرق الأوسط أن تزدهر مرة أخرى على جذورها التاريخية. لذا، لا بد من الابتعاد كلياً عن كافة أنواع التطرف والعصبية، التي تؤدي إلى إبادة الطبيعة والبشر، ولا بد من التركيز في راهننا أيضاً على قيم الحياة المجتمعية التشاركية، التي بُنِيَت في هذه البقعة الجغرافية قبل عشرات آلاف السنين. ومشروع الحل الوحيد لتحقيق ذلك، يتمثل في "الأمة الديمقراطية" و"الكونفدرالية الديمقراطية".

5- إن أفكار وكتب القائد أوجلان تخضع اليوم للبحث والنقاش من قبل العديد من المثقفين والسياسيين والأكاديميين العرب. فما الذي يمكنكم قوله لأولئك الذين يودّون التعرف على أفكار القائد أوجلان؟ وما هو المسار الذي يجب اتّباعه، وما نوع التضامن الذي يجب تطويره من أجل تحقيق حرية القائد أوجلان؟

بدايةً أود القول إنني أُحَيّي كل مَن يبحث ويناقش ويحاول التعرف على أفكار القائد آبو. وأعلم أن الكثير من المثقفين والكتّاب والأكاديميين والباحثين في مصر يحاولون التعرف على القائد آبو بإعجاب كبير، ويقرأون أعماله، ويسعَون لمعرفة أفكاره. وكلما زاد استعدادهم وإصرارهم على ذلك، فهو أمرٌ في محله تماماً. ذلك لأن القائد آبو ينير حاضرنا ومستقبلنا بابتدائه جدليةَ التاريخ وتطورَ البشرية من السومريين، ومن مصر أيضاً إن جاز التعبير. وعبارة القائد آبو بأن: "التاريخ مخفي في الحاضر، والحاضر مخفي في التاريخ" ذات مغزى في هذا الصدد. إذ، وبدونِ امتلاكِ وعيٍ تاريخيّ راسخ وسديد، لا يمكننا أن ندرك حاضرنا بنحوٍ صحيح، ولا أن نبني مستقبلنا بالشكل الذي نستحقه. النقطة الأخرى هي أن الحداثة الرأسمالية تؤدي أكبر أشكال الخداع والرياء والتضليل، من خلال قلبِ كلِّ شيءٍ إنسانيّ، بما في ذلك الواقع التاريخي، رأساً على عقب. وعليه، يقوم القائد آبو، من خلال أفكاره، بتقييم وتسليط الضوء على هذا الواقع المخادع والازدواجي والمخفي والشنيع للحداثة الرأسمالية. علاوةً على ذلك، فهو يوضح الطريق المؤدي إلى عيش الإنسان بسلامٍ ووئام وحريةٍ وديمقراطيةٍ مع نفسه ومحيطه وحاضره وغده، ومع البيئة والطبيعة. ومن خلال أفكاره، فهو، في الواقع، يقوم بتقييم مصطلحات "الأيديولوجيا" و"الأخلاق" و"الحقيقة" بقوةِ الوعي والتحليل والتفسير المُنَقّاةِ عبر التاريخ، ويقدّمها للإنسانية. وبمقدوري القول بكل سهولة أن هذا تنوير عظيم للبشرية. من المثير حقاً أن نرى أن التنوير والنهضة العظيمَين، اللذَين سرقَتهما الحداثة الرأسمالية من الشرق الأوسط، ونسبَتهما إلى نفسِها كطفلٍ غيرِ شرعيّ لها؛ سوف يتطوران مجدداً في موطنهما، أي في الشرق الأوسط. وهذا بالتحديد هو سبب العداء الكبير الذي تكنُّه قوى الحداثة الرأسمالية للقائد آبو. فقد حيكَت المؤامرة الدولية الكبرى بغرض تحييد القائد آبو وسدّ الطريق أمام انتشار أفكاره. لكنّ ردّ القائد آبو على ذلك في سجن إمرالي، كان بمثابة ثورة ذهنية جديدة اعتبَرَها "ولادتَه الثالثة". هكذا، بات لا يمكن لأية قوة الآن أن تَحُول دون انتشار وقراءة أفكار القائد آبو في جميع أنحاء العالم. فقد تُرجِمَت مرافعاتُه إلى العربية والتركية والفارسية والإنجليزية والألمانية والفرنسية والإسبانية، وطُبِعَت كتبُه على نطاق واسع. وبقدر إمكانية الحصول عليها ورقياً، فبالإمكان متابعتها عبر الإنترنيت أيضاً؛ بشرط أن نقوم نحن وأصدقاؤنا الأعزاء ببذل المزيد من الجهد والعزيمة لضمان قراءة أو الحثّ على قراءة كتب القائد، ووصول أفكاره إلى المزيد من الناس على نطاق واسع. وإذا حدث هذا، فإن مقولة القائد آبو: "أنا موجودٌ في كل مكانٍ تتواجد فيه كتبي" سيغدو لها معنى عظيم في الممارسة والحياة. ويقع على عاتق أمثالكم من الأصدقاء الأعزاء واجبات ومسؤوليات مهمةٌ حقاً في هذا الشأن. إذ يمكن للأصدقاء، الذين يبحثون ويناقشون أفكار القائد آبو، أن ينظموا المؤتمرات والندوات وورشات العمل حول العديد من المواضيع. ويمكنهم إجراء مناقشات مثمرة للغاية، أكان عبر التكنولوجيا والإنترنيت، أو من خلال الاجتماع الوجاهي. كما إن الكراسات المُعَدّة من مرافعات القائد آبو، هي شاملة وعميقة بخصوص العديد من المواضيع. بالإمكان أحياناً تطوير نقاشات ونشاطات متعددة تحت عناوين مختلفة وبأشكال مختلفة. ومن المؤكد أنه لن يكون من قبيل المبالغة القول بأن الإنسانية تحتاج في هذا الصدد إلى جهودِ أصدقاءٍ كِرامٍ من أمثالكم.

إن الحرية الجسدية للقائد آبو تمثّل، بالطبع، الأولوية القصوى والواجب الأول على عاتقنا وعاتق شعبنا وأصدقائنا. ولهذا السبب، فإن شعبنا وحركتنا، وكذلك العديد من رفاقنا من مختلف الأمم، يقولون: "إما حياة حرة مع القائد آبو، أو لا شيء". إننا نقول: "Bê Serok Jiyan Nabe"، أي: "لا حياة بدون القائد". وقد قمنا بالعديد من الحملات حتى الآن من أجل حرية القائد آبو، وجمعنا 13 مليون توقيعاً، وتم تسليم هذه التوقيعات الموثَّقة إلى هيئة الأمم المتحدة. ونُظِّمَ عدد كبير من المسيرات والتظاهرات والنشاطات. كما استشهد العشرات من رفاقنا ومن الوطنيين الكرد ومن أصدقاء الكرد، بجعلهم أجسادَهم طَوقاً من نارٍ حول القائد آبو تحت شعار "لا يمكنكم حجب شمسنا". لكن، ولسوء الحظ، لم تَكفِ كل هذه النضالات والأنشطة التي نظّمناها لأجل ضمان الحرية الجسدية للقائد آبو. وما يزال القائد آبو معتقَلاً في سجن إمرالي منذ 25 عاماً. ومن المؤكد أن هناك ضغط وتعذيب نفسي كبير عليه. وبالأصل، فنحن نعلم جيداً أنه عندما نُقِلَ القائد آبو إلى سجن إمرالي، قال له مسؤولو الدولة التركية: "لن نقوم بإعدامك، لكنك ستموت أكثر فأكثر كل يوم، وسيكون هذا أسوا من الإعدام". كما نتذكر جيداً أنه في بعض الرسائل غير الموَقَّعة، التي أُرسِلَت إلى القائد آبو، قالوا له: "سنعطيك سُمّاً من النوع الذي عندما تموت به، فحتى الحشرات التي ستأكل جثتك في القبر ستموت أيضاً به". كل هذا يمثل حقاً الأهدافَ الحقيقية للدولة التركية الاستعمارية، وكذلك أساليبَ الضغط والتعذيب النفسي التام. لكنّ القائد آبو يقاوم. وفي الواقع، فإن حرب الإبادة، التي تشنها الدولة التركية ضد شعبنا وحركتنا، إنما تصل أقصاها في سجن إمرالي. ورغبتهم الوحيدة هي أن يتخلى القائد آبو عن آرائه ومُثُله ومعتقداته وإصراره. وما تزال هذه الحرب مستمرة.

مثلما هو معلوم، فقد انطلقت حملة جديدة، في 10 تشرين الأول/أكتوبر 2023 تحت شعار "الحرية الجسدية للقائد أوجلان، والحل السياسي للقضية الكردية". وقد أطلقَ هذه الحملةَ أصدقاءٌ من الحائزين على جائزة نوبل، وشخصيات مشهورة عالمياً من العلماء والأدباء والمفكرين والساسة. هكذا بدأت الحملة، عندما أعلن الأصدقاء إطلاقَ الحملة في نفس اليوم وفي 74 مركزاً حول العالم، بما في ذلك مصر. وشارك في هذه الحملة "المؤتمر النقابي العالمي" والكثير من المثقفين والفنانين وعشرات الملايين من الأشخاص. كما انخرط في هذه الحملة النساء والشباب، بدءاً من بنغلادش وحتى مختلف أصقاع العالم. وأقيمَت المهرجانات التي نظمها فنانون في مناطق كثيرة من أوروبا. وهناك أيضاً مشاركون في الحملة في العراق ولبنان والعديد من البلدان الأخرى.

إن وضع القائد آبو، المعتقل منذ 25 عاماً ولم يُسمَع عنه أيّ خبر منذ 33 شهراً، يثير قلقاً كبيراً وغضباً شديداً بين صفوفنا وبين شعبنا وأصدقائنا. ذلك أننا نعلم أن الدولة التركية القائمة على سياسة الاحتلال والإبادة الجماعية تنتقم رسمياً من القائد آبو. كما نعلم جيداً أنه لم يُطَبَّقْ أي قانون وطني أو دولي على القائد آبو. فجميع المقاربات هي سياسية بحتة. وإلا، ما كان يمكن أن تُطَبَّقَ كل هذه العزلة والقمع والتعذيب. والقائد آبو بذاته يمثل شخصية سياسية. وبتعبير أدق، فهو يتعدى كونه شخصاً، ليمثل شعباً بأكمله. وأملُ ومستقبلُ شعبٍ ما يمثل الإنسانية بعينها. ولهذا السبب، فإن الدولة التركية القائمة على سياسة الإبادة، تمارس الضغط على القائد آبو، ولا تريد إطلاقاً تحقيق حريته الجسدية.

إذا سألتم القائد آبو، فسيقول بكل وضوح أنه حر. وبالفعل، ثمة حقيقة تشير إلى أن القائد آبو معتقل جسدياً. وإلا، فأيةُ قوةٍ أو طرف بإمكانه أن يحبس أو يحصر روحه الحرة وفؤاده النابض وأفكاره وآراءه المتدفقة كالنهر الجياش؟ وعليه، فإن القائد آبو حرٌّ حقاً، روحياً وفكرياً. ولكننا نقول: كفى، يجب أن يكون حراً جسدياً أيضاً. لهذا السبب إذن، انطلقت الحملة المطالِبة بالحرية الجسدية للقائد آبو وبالحل السياسي للقضية الكردية. ومؤكد أن هذه الحملة ستنتشر وتنمو وتتطور أكثر فأكثر. هذه الحملة، التي أُطلِقَت في كردستان وعلى المستوى العالمي لأجل الحرية الجسدية للقائد آبو، سوف تتطور كحركةٍ عالمية بالنسبة لكل الموالين للكدح والحرية والديمقراطية. لذا، فعندما تأخذ كل القوى الموالية للكدح والحرية والديمقراطية، وكل مَن يتبنى الحداثة الديمقراطية ضد الحداثة الرأسمالية، مكانهم في هذه الحملة ويدعمونها؛ فإن هذا مهمٌّ لأنفسهم أيضاً. جميعنا يعلم أن عالَم اليوم أصبح أصغر مع تطور التكنولوجيا. وبات ممكناً اللقاء والنقاش يومياً ولحظياً بين الأشخاص في مختلف أرجاء العالم. ينبغي على الأصدقاء الذين يتطلعون إلى توسيع نطاق الحملة والدفع بها لتحقيق أهدافها، أن يفعلوا ذلك في بلدانهم أولاً، وأن ينظموا لهذا الغرض مختلف المؤتمرات والندوات وورشات العمل والمهرجانات. بل ومن الضروري أن تكون هناك مسيراتٌ وتجمعات ونشاطات حاشدة. وإذا ما كان هناك حوار وتواصل مستمرَّين مع المنسقية المركزية للحملة، فسيكون بالمستطاع قراءة وفهم المستجدات بنحو أفضل، وكذلك تحقيق ما يمكن القيام به محلياً بموجب ذلك. وعلى هذا الأساس، فإننا على قناعةٍ بأن القائد آبو سيحصل، بالتأكيد، على حريته الجسدية، في حال حقَّقَت هذه الحملةُ هدفَها.

 

يتبع في الجزء الثاني..