ثلاثة أيام في الشهباء.. متابعة ميدانية

تُعتبر منطقة الشهباء، التي تقع في جهة الشمال من محافظة حلب ولها امتداد مع إعزاز وعفرين في الشمال، درعاً بشرياً في مواجهة الجماعات المسلحة والمرتزقة التابعة للاحتلال التركي.

قبل التوجه إلى منطقة الشهباء راودتنا أفكار كثيرة، بلا شك كانت معلومات يومية عن الأوضاع فيها، ولكن إن لم تشاهد الأمور بعينك تبقى كافة المعلومات ناقصة، وكما يقال: "من سمع ليس كمن رأى".

عندما تعايش الحقيقة عن قرب وتحصل على أجوبة ملموسة لأسئلة تراودك على الدوام من قبيل: "كيف يعيش الأهالي في منطقة الشهباء بين المخيمات والقرى؟ ومن هم سكان هذه المنطقة؟ كيف يعيشون وكيف يلبون احتياجاتهم المعيشية واليومية؟ وكذلك مدى اتساع الرقعة الجغرافية لهذه المنطقة، ونمط الإدارة فيها؟ ومن هم القائمين على إدارتها؟ وغيرها من الأسئلة.

هناك أكثر من 3 مدن و25 قرية، في منطقة الشهباء، أكبر مدنها هي مدينة تل رفعت التي تعتبر مدينة تاريخية بحد ذاتها فقد تعاقبت عليها حضارات عديدة، حيث تعتبر منطقة الشهباء درعاً منيعاً لسوريا وميزوبوتاميا عبر التاريخ.

كما هو معلوم فإن المنطقة قد شهدت أحداث المعركة التاريخية المشهورة بـ (مرج دابق) في سنة 1516م، والتي جرت أحداثها في قرية مرج دابق التي تبعد مسافة 19 كم فقط عن مركز مدينة تل رفعت، حيث قاوم شعب هذه المنطقة في وجه الغزو العثماني بقيادة السلطان سليم الأول مقاومة بطولية، ولكن قلة العدد بالإضافة إلى حدوث بعض الخيانات تسببت في ترجيح كفة العثمانيين في المعركة، مما أدى إلى انتصارهم وخضوع هذه المنطقة وصولاً إلى مصر للاحتلال العثماني الذي دام قرابة 500 عام.

انتصار العثمانيين في هذه المعركة يُعطي دافعاً لأردوغان لوضع هذه المنطقة نُصب عينه، كونه يعتبر نفسه السلطان الجديد ووارث الدولة العثمانية.

منطقة الشهباء التي تقع من جهة الشمال الشرقي لمدينة حلب ولها حدود إدارية مع كلٍ من إعزاز وعفرين، تتميز بالغنى الثقافي والإثني والمذهبي، تتجاور فيها القرى العربية مع الكردية والشيعية مع السنية، والكل في علاقاتِ جيرةٍ جيدة، ورغم صغر المساحة الجغرافية للمنطقة إلا أن المنطقة تدار بشكل ذاتي ومستقل.

لدى دخولنا مدينة تل رفعت، لفت انتباهنا حركة الأهالي في السوق؛ زرنا إدارة المدينة والتقينا رضوان رفاعي، الرئيس المشترك لمنطقة الشهباء، الذي استقبلنا بحفاوة وتحدث لنا عن التهديدات التركية على المنطقة وشعبها، فقال: "أدرك هذا الشعب جميع الأساليب والألاعيب القذرة والمؤامرات التي تحاك ضده، خاصة ألاعيب ومؤامرات الدولة التركية، والجميع يعلم ويدرك ما يعانيه شعبنا في عفرين وإعزاز في ظل الاحتلال التركي، وهذا هو السبب الكامن وراء الهدوء والسكينة التي تلاحظونها في نموذج حياة الأهالي هنا، على الرغم من تعرض المنطقة للقصف من قبل مرتزقة الدولة التركية في بعض الأحيان". 

وفي معرض حديثه عن أوضاع أهالي الشهباء وتل رفعت، أجاب رضوان عن سؤالنا حول مصير أهالي تل رفعت الذين هُجروا وكيفية معالجة هذه المشكلة بقوله: "نحن نستقبل الجميع برحابة صدر، بعد احتلال عفرين عادت نحو 500 عائلة، ونحن كإدارة مدنية غايتنا وهدفنا الأساسي احتواء وحماية أهلنا، وإلى الآن لم يتم رفض أو رد أي عائلة".

إلى جانب المخيمات أيضاً فقد توزع الأهالي المهجرين من عفرين إلى القرى ليسكنوا فيها، كما أنه في داخل مدينة تل رفعت هناك حي بأكمله يقطنه عةائل مهجرة من عفرين، يقومون بإدارة أنفسهم وتدبر أمورهم عن طريق الكومينات ، فقد شكلوا 16 كوميناً.. ذهبنا إليهم هناك، وعايشنا واقعهم المليء بالألفة والمحبة، وأحاديثهم كلها كانت عن أشجار الزيتون وتراب عفرين الحمراء.

تحدث إلينا مصطفى يعقوب، ذلك الرجل البالغ من العمر 50 عاماً، عن صعوبة ترك المرء لبيته وأرضه، وقال: "هذه الأيام التي أعيشها هنا لن أحتسبها من عمري، فقد مرت سنة ونصف وأنا هنا لكنني لا أشعر بأن هذه الفترة هي جزء من حياتي".

وبعد أن أنهى العم مصطفى حديثه، ساد الجلسة صمت حزين، تلاها التفاتة رجلٍ آخر في الخمسينيات من العمر وهو يتحدث متنهداً بصوت متعب حزين يسود عليها الحسرة والألم: "يوم واحد في بيتي يعادل العمر كله، العيش في بيتي أفضله على تمليكي هذه المدينة بأكملها".