اثنان وثلاثون عاماً ولا زالت حلبجة تنزف

لم تندمل جراحات حلبجة ولم تهدأ أحزانها، حتى بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود من الزمن على المجزرة التي راحت ضحيتها آلاف الكرد ما بين أطفال ونساء وشيوخ ورجال، ضمن سلسلة الإبادة بحق الشعب الكردي في العراق والتي عرفت بـ "حملة الأنفال".

بتاريخ السادس عشر من آذار 1988 تعرضت مدينة حلبجة الكردستانية لهجوم كيميائي، شنته القوات الجوية العراقية في أواخر الحرب الإيرانية العراقية، تسبب بإبادة جماعية للمدنيين من سكان حلبجة،  تجاوزت حصيلتها 5000 ضحية أغلبهم من النساء والأطفال.

الحكومات العراقية التي كانت تتولى السلطة في العراق بانقلابات عسكرية، كانت توجه مدافعها وطيرانها صوب جنوب كردستان  (المناطق الكردية في شمال العراق) وترتكب المجازر بحق الشعب الكردي، بذريعة مواجهة النضال التحرري الكردي؛ حيث تصاعدت الهجمات والمجازر بعد اتفاقية الجزائر 1975 ما بين إيران والعراق.

جرت اتفاقية الجزائر في 6 آذار عام 1975 بين نائب الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين وشاه ايران محمد رضا بهلوي وبإشراف رئيس الجزائر آنذاك هواري بومدين.

تشكل الحدود العراقية الإيرانية إحدى المسائل الرئيسة في إثارة الكثير من النزاعات عبر تاريخ العراق. في عام 1937 عندما كان العراق تحت الهيمنة البريطانية تم توقيع اتفاقية تعتبر ان نقطة معينة في شط العرب غير خط القعر هي الحدود البحرية بين العراق وايران لكن الحكومات المتلاحقة في ايران رفضت هذا الترسيم الحدودي واعتبرته "صنيعة امبريالية" واعتبرت ايران نقطة خط القعر في شط العرب التي كان متفقا عليه عام 1913 بين ايران والعثمانيين بمثابة الحدود الرسمية ونقطة خط القعر هي النقطة التي يكون الشط فيها بأشد حالات انحداره. في عام 1969 بلغ النظام العراقي الحكومة الإيرانية "أن شط العرب كاملة هي مياه عراقية ولم تعترف بفكرة خط القعر".

كما أن أحد الأهداف الرئيسية لاتفاقية الجزائر، كانت اخماد ثورة التحرر الكردية بقيادة الملا مصطفى البارزاني، وذلك بقطع الدعم المقدم لها من قبل شاه إيران، حيث بدأت الطائرات العراقية حينها بقصف معظم المدن والبلدات والقرى الشمالية والحدودية من السليمانية إلى منطقة بهدينان ومن جبال قنديل إلى جبال كاري ومناطق نهر الزاب الصغير والكبير، مما أدى إلى إفراغ آلاف القرى من سكانها وهجرة عشرات الآلاف من الشعب الكردي وانسحاب قسم من البيشمركه إلى شمال كردستان (تركيا) وقسم توجه إلى شرق كردستان (إيران) والقسم المتبقي تحصن في جبال كردستان.

استمرت النتائج السلبية لاتفاقية الجزائر وإضعاف ثورة التحرر الكردية في جنوب كردستان، لسنوات طويلة ومعها حملة "الأنفال" الهادفة إلى إبادة جماعية بحق الشعب الكردي، بعد أن استلم صدام حسين، السلطة في العراق عام 1979، صَّعد من وتيرة حملة الأنفال لمدة تسعة أعوام متواصلة، وكانت حملة الأنفال الأولى  عام 1982 حيث استمر أربعة أعوام، كما أنه أعلن عدم اعترافه باتفاقية الجزائر والحدود المرسومة وفقها وبدأت حرب الخليج الأولى (الحرب الايرانية العراقية) عام 1980؛ حيث أن معظم الحرب العراقية الايرانية جرت في المناطق الكردية الحدودية ما بين كلتا الدولتين.

انتهت حرب الخليج الأولى في العام 1988 بمبادرة من الأمم المتحدة، ولكن الملفت للنظر هو أنه في الوقت الذي كانت تتم إجراءات إنهاء الصراع المسلح بين إيران والعراق، حشدت القوات العراقية وكذلك الإيرانية قواتها على الشريط الحدودي الفاصل ما بين الدولتين في مواجهة الشعب الكردي.

يعتبر علي حسن المجيد وهو كان من أحد قياديي حزب البعث في العراق وابن عم الرئيس العراقي صدام حسن، من أكثر المدانين بارتكاب مجزرة حلبجة، حيث يلقبه الشعب الكردي بـ "علي كيماوي"؛ وفي آذار 1987 عُيِّن مسؤولاً عن حزب البعث في منطقة جنوب كردستان، حيث تحدث علي الكيماوي في أحد اجتماع لحزب البعث بتاريخ 26 أيار 1987 وقال " بعد أن ننتهي من عمليات التهجير، سنلاحق البيشمركه في كل مكان وسنحصرهم في مناطق صغيرة ضيقة ونقصفهم بالأسلحة الكيميائية طوال خمسة عشر يوماً."

وعلى هذا الأساس، بدأ نظام صدام حسين بتنفيذ حملة الأنفال على ستة مراحل، امتدت من شهر شباط 1988 إلى شهر أيلول من العام نفسه، حيث استغل النظام العراقي هدوء الحرب على الجبهات مع إيران وقصف مدينة حلبجة الكردستانية على الحدود الإيرانية، يوم الأربعاء 16 آذار 1988 بالأسلحة والقنابل الكيميائية وقتل أكثر من 5000 من ابناء الشعب الكردي من الشيوخ وانساء والأطفال والرجال؛ وتتحدث المصادر عن حوالي 200 ألف ضحية، نتيجة حملة الإبادة الجماعية للشعب الكردي في جنوب كردستان "الأنفال"، كما أن 90% من القرى الكردية الحدودية تم تدميرها وحرق معظمها.

إلى اليوم وبعد مضي 32 عاماً على هذه المجزرة الوحشية، لا زالت جراحات حلبجة تنزف ولا تندمل ولها ذكرى أليمة في ذاكرة الشعب الكردي؛ كما يتذكر الشعب الكردي أيضاً الصمت الإقليمي والدولي والعالمي إزاء الإبادة الجماعية هذه؛ باستثناء فرنسا التي نددت حينها باستخدام الأسلحة الكيميائية من قبل النظام العراقي؛ كما أعلنت الأمم المتحدة في بيان خجول وزهيد بتاريخ 26 نيسان 1988 "أن كل من إيران والعراق، استخدمتا الأسلحة الكيميائية في الحرب الدائرة بينهما".

تتالت الدراسات لمعرفة أعداد الضحايا والمفقودين وحجم الخسائر في مجزرة حلبجة، وكانت إحدى الجهات التي قامت بتوثيق هذه المعلومات، هي جمعية ضحايا الأسلحة الكيميائية ومركزها مدينة حلبجة؛ حيث أعلنت هذه الجمعية نتيجة دراساتها التي استغرقت سنوات عديدة من العمل والبحث والتحقيق، وقالت أن عدد الضحايا الذين فقدوا حياتهم في مجزرة حلبجة 5600 شخص، وهناك العشرات من الأطفال المفقودين الذين هربوا إلى شرق كردستان في إيران، كما أكدت الجمعية أن المعلومات الأكيدة لدينا، توثق أن كل عائلة في حلبجة لا بد وأنها فقدت شخصاً على الأقل في تلك المجزرة.

وأفادت الجمعية أن هناك عشرات العائلات قد أبيدت بالكامل، وذكرت أيضاً أن شخصاً واحداً فقط بقي على قيد الحياة من أصل 31 أسرة وهو يدعى آراس عبيد أكرم الذي يدير الآن جمعية ضحايا الأسلحة الكيميائية في حلبجة.

انتقد آراس عبيد أكرم في الذكرى الثانية والثلاثون لمجزرة حلبجة، الإدارة الكردية والأحزاب الكردية، كما ندد بالمواقف الدولية التي لم تصنف مجزرة حلبجة إلى اليوم في سياق حرب إبادة جماعية "جينوسايد"، وأشار إلى أن المجتمع الدولي بتقاعسه وتجاهله هذا يفسح المجال لأعداء الكرد بارتكاب الإبادات الجماعية في كل من شمال وروج آفا وشرق كردستان.

وأضاف أكرم في حديثه " كذلك اعتبر أن الشقاق الذي يعاني منه الأحزاب الكردية، كان أحد أسباب حدوث المجزرة وكذلك "الحرب على السلطة" ما بين الأطراف الكردية."

وتابع أكرم بقوله " لو عملت الإدارة الكردية والأحزاب الكردية بعد انهيار نظام صدام حسين، من أجل الحصول على اعتراف دولي بالمجازر التي ارتكبها النظام العراقي في حلبجة وبارزان؛ لما كنا سنشهد مجازر أخرى في شنكال وفي الأجزاء الأخرى من كردستان؛ كما يجب أن تدرك الإدارة والأحزاب الكردية أن الحصول على اعتراف دولي بالمجازر المرتكبة في حلبجة وبارزان، هو واجبهم الأول."