"الكرد الجيّدون" ورقة تركيا في عفرين المحتلّة.. هل ستكون في شرق الفرات أيضاً؟

دأبت الدولة التركيّة منذ احتلالها لمنطقة عفرين على تغيير ديموغرافيّتها وتركيبتها السكّانية, بما يتناسب مع مخطّطاتها التوسّعية القائمة على استعادة "أمجاد الإمبراطوريّة العثمانيّة", مستخدمة ورقة "الكرد الجيّدين" لإبراز شرعيّة تواجدها هناك.

فالاستخبارات التركيّة جنّدت عدداً من الكرد, المتعاونين معها وفقاً لمصالحهم الشخصيّة, لتبرير اجتياحها لمنطقة عفرين بذريعة "محاربة الإرهاب", ولعب أولئك "الكرد الجيّدين" دورهم في تلميع صورة المحتل وإظهاره كمخلّص للشعب الكردي, متجاهلين إبعاد الدولة التركيّة والفصائل المسلّحة, المتعاونة مع الجيش التركي في احتلال عفرين, لهم, حيث لم يتمكّنوا من المشاركة في إدارة المنطقة كما كانت تعدهم تركيا, ولعلّ أبرز الأطراف الكرديّة التي ساهمت في هذا الأمر هي "رابطة المستقلّين الكرد السوريّين" وشخصيّات قياديّة من "المجلس الوطني الكردي في سوريا".

وكانت "لجان التحقيق والادعاء" في مقاطعة الجزيرة قد أصدرت بياناً في 4 تمّوز 2016, وصفت فيه "رابطة الكرد السورييّن المستقلّين" بالتنظيم الارهابي من صناعة الاستخبارات التركيّة, الهدف منه "هدم مكاسب الشعب الكردي في روج آفا  وإثارة الفتنة والبلبلة بين مكوّنات المنطقة والقيام بأعمال تخريبيّة وإرهابيّة".

مع دخول قوى الاحتلال إلى عفرين في 18 آذار 2018, عقدت "رابطة المستقلّين الكرد السوريّين" مؤتمراً تحت مسمّى "إنقاذ عفرين" في مدينة عنتاب بتركيا, وبإشراف مباشر من والي عنتاب الذي قدّم كافة التسهيلات اللازمة, وكان الهدف هو تشكيل إدارة محلّية لعفرين جديدة, حيث انتخب المؤتمر 35 شخصيّة شكّلت مجلس عفرين المحلّي, بينما سارعت تركيا في 10 نيسان إلى تشكيل "هيئة عامّة" للمجالس المحلّية لكامل منطقة عفرين وضمّت 107 شخصيّة, أغلبهم لا تاريخ لهم سياسيّاً ويتبعون مباشرة للاستخبارات التركيّة.

ولم يكن التمثيل في الهيئة العامّة مراعٍ لمكوّنات منطقة عفرين, حيث نال العرب على 8 مقاعد بشكل أكبر من تواجدهم الحقيقي على الأرض والذي يقتصر على بعض قرى مجرى نهر عفرين, وهم من عشيرة "البوبنا", وحصل التركمان على مقعد, رغم عدم وجودهم في عفرين, حيث أعطي المقعد لشخص عربي يحمل الجنسيّة التركيّة هو الطبيب أحمد حاجي حسن, الذي يدير المكتب الطبي في معبر باب السلامة, بينما نال الكرد 11 مقعداً لأشخاص غير معروفين لدى أبناء عفرين وهم تابعون للاستخبارات التركيّة.

كان من المفروض أنّ تكون المجالس المحلّية المشكّلة تابعة للحكومة السوريّة المؤقّتة, بيد أنها تتلقّى أوامرها التنفيذيّة من الجانب التركي بشكلٍ مباشر. وهذا ما أكّده رئيس مجلس عفرين, المهندس سعيد سليمان, في لقاءٍ مع صحيفة "خبر" حول طبيعة العلاقة مع الحكومة السورية المؤقّتة, وما يتّفق مع شهادة أحد أعضاء المجلس المحلي في عفرين بأن تركيا هي مَن يشرف على التنسيق والخطط التنفيذية, في ظلّ غياب أيّ دورٍ أو وجودٍ في عفرين للحكومة المؤقّتة, التي منعتها أنقرة من فتح مكاتبها هناك.

تتلقّى المجالس المحلية في منطقة عفرين مخصّصاتٍ ماليةً شهريةً من تركيا عبر والي هاتاي (الاسكندرون) على غرار نظيراتها في منطقة "درع الفرات" وهي أموال عائدات المعابر الحدودية التي توزّعها تركيا أيضاً على "الجيش الوطني" وتخصّصها لترميم البنية التحتيّة.

إلّا أنّ تركيا قامت بسلسلة اعتقالاتٍ شملت مدنيين كانوا يعملون في الإدارة المدنية والمؤسسات التابعة لها, ولا انتماء سياسياً لهم. ولم تقتصر اعتقالاتها على المتّهمين بالانتماء الى الإدارة الذاتية فحسب, بل طالت أيضاً أعضاء في المجالس المحلية أنفسهم. فاعتقلت رئيس المجلس المحلي في عفرين, زهير حيدر, وأعفته من مهامه في أيلول 2018. كما قُتِل تحت التعذيب نائب رئيس مجلس ناحية الشيخ حديد, أحمد شيخو, على يد عناصر فصيل "سليمان شاه" في 12 آب 2018 بعد بضعة أيام من اعتقاله, وذلك بسبب طلبه إعادة بعض البيوت المُستولى عليها إلى أصحابها.  كما اعتقلت الشرطة العسكرية في جندريسه أوائل شهر أيّار عضو المجلس المحلي, جكرخوين إسماعيل, وسلّمته إلى المخابرات التركية من دون معرفة سبب اعتقاله.

لقد أدّت مطاردة كلّ العاملين السابقين في الإدارة الذاتية في مقاطعة عفرين, والتضييق على أعضاء المجلس الوطني الكردي واعتقالهم, واعتقال أعضاء في المجالس المحلية الموالية أساساً لتركيا, لانتقادهم سلوك الفصائل أو الاعتراض على بعض السلوكيات اليومية, إلى إقصاء الأطراف الفاعلة السياسية المعروفة, وتشكّل طبقة سياسية كردية جديدة قائمة على "الزبائية" ومُلحَقة بشكلٍ مباشرٍ بتركيا, تستفيد من حمايتها, ومن غياب المنافسين.

وبرزت في هذه الطبقة شخصيّاتٌ غير معروفةٍ في المشهد الكردي في عفرين, أمثال سعيد سليمان, الذي شغل منصب رئيس المجلس المحلي الحالي في مدينة عفرين وحسين مصطفى, نائب رئيس مؤتمر إنقاذ عفرين, والطبيب أحمد حاجي حسن, رئيس المكتب الطبّي في مجلس مدينة عفرين, وهو عربي حاصل على الجنسية التركية, إضافةً إلى عبد الناصر حسو, رئيس غرفة صناعة وتجارة عفرين, وهو تركماني حاصل على الجنسية التركية, وهذا ما يؤكّد أنّ الارتباط بالقرار الأمني التركي أصبح كبيراً للغاية. بالإضافة إلى أنّ سياسة الدولة التركيّة تعزّزت بتكريس دور التركمان في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام, عبر تعيين التركماني عبد الرحمن مصطفى, رئيساً للحكومة المؤقّتة في 27 حزيران 2019 الأمر الذي ينذر بتسريع عمليّة تتريك منطقتَي "درع الفرات" وعفرين.

نلاحظ هنا أنّ "المجلس الوطني الكردي في سوريا" كان ولا يزال غائباً عن مجريات الأحداث في عفرين, حيث همّش أعضاء المجلس ولم يسمح لهم أن يتمّ تمثيلهم في المجالس المحلّية لعفرين. رغم ذلك, بقي قياديّون من المجلس يدلون بتصريحات تبرز "الدور الإيجابي" لتركيا في "دعمها للكرد السوريّين وخدمة قضيّتهم", وهذا ما ورد على لسان القيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني-سوريا, عبد الحكيم بشّار, الذي صرّح لوكالة أناضول باللغة الإنكليزيّة في 22 كانون الثاني 2019 قائلاً "الحكومة التركيّة تدعم حقوق الشعب الكردي في سوريا.. وحدات حماية الشعب YPG ثاني أكبر تهديد على الكرد بعد تنظيم داعش!.. أستغرب كيف أنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة لا تفرّق بين الشعب الكردي وبين وحدات حماية الشعب..".

بالمثل, كان تصريح القيادي في حزب "يكيتي" فؤاد عليكو الذي قال لموقع "ARK": "المنطقة الآمنة مطلب تركيّ مدعوم أمريكيّاً بهدف إخراج حزب الاتحاد الديمقراطي PYD من سوريا!". كما لم تخلو تصريحات أيّ من قياديّ المجلس, الذين يتّخذون من إسطنبول مقرّاً لهم من "مغازلة" سياسات الدولة التركيّة الراميّة إلى "القضاء على الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا" متمنّين دوراً لهم في إدارة المنطقة إذا ما احتلّتها تركيا.

والآن, تعمل الاستخبارات التركية الآن على تشكيل ما يسمى بـ "حكومة شرق الفرات" على غرار "المجلس المحلّي لعفرين" الذي شُكّل قبل احتلال تركيا لعفرين في 18 آذار 2018, عقب اجتماع بيّن الاستخبارات التركية وممثلي المجلس الوطني الكردي في تركيا.

 وضمّ المجلس في تلك الفترة عدّة شخصيات من المجلس الوطني الكردي وهم كل من عبد الحكيم بشار, وكاميران حاجو وآزاد عثمان.

 ومن ثمّ تحوّل إلى مجلس "إنقاذ عفرين" وهُمّش دور المجلس الوطني الكردي بعد احتلال تركيا لعفرين بشهادة المجلس نفسه.

وبرز دور رئيس "لجنة إعادة الاستقرار" في محافظة حلب, منذر الصلال, حيث سلّم سلّم وثيقة لرئيس مكتب العلاقات الخارجيّة في المجلس الوطني الكردي, كاميران حاجو أواخر شهر حزيران 2019, و تضمّنت الوثيقة آليّة تشكيل "حكومة شرق الفرات" بالإضافة لعدّة مقترحات أبرزها دعم مجموعات الخلايا النائمة التابعة لمرتزقة تركيا في عدّة مناطق حرّرتها قوّات سوريا الديمقراطيّة من تنظيم داعش.

وفي تصريحاته لصحيفة "الأحوال" التركيّة, في 30 تمّوز 2018, أكّد الصلال على ارتباطهم بالدولة التركيّة قائلاً "نحن على أتّصال وثيق بتركيا نظراً لكونها نشطة في المنطقة ولأنّها تقدّم خدمات. كما أنّنا نعتمد على مساعدة الحكومة التركيّة فيما يتعلّق بالمعبر الحدودي. لم نواجه مشكلات معها لأننا منظّمة مستقلة. هم يحترمون عملنا ويعتبروننا جزءاً من المعارضة السورية".

كما أكّد أيضاً أنّ "لجنة إعادة الاستقرار": "أسهمت أيضاً في تأسيس بعض من المجالس السبعة في منطقة عفرين". التي شُكّلت بعد احتلال تركيا لعفرين. بيد أنّ الوقائع تشير إلى أنّ هذه اللجنة تتلقّى أموالاً ضخمة من منظّمات دوليّة وتنفقها في دعم المجموعات التابعة للدولة التركيّة التي تعمل على زعزعة أمن واستقرار مناطق في شمال وشرق سوريا, كما تشير الوثيقة ذاتها, التي سلّمها الصلال إلى كاميران حاجو, التي تضمّنت تشكيل "حكومة شرق الفرات" من أشخاص من منبج, جرابلس وعفرين, يتواجدون في إقليم جنوب كردستان, إلى جانب دراسة شاملة لعدّة مناطق في شمال وشمال شرقي سوريا, وهي عفرين وشمال حلب وشرقي حلب ومنبج وشرق الفرات والحسكة وديرالزور.

على الرغم من أنّ التهديدات التركيّة بشنّ عمليّة عسكريّة شرق الفرات تقلّصت بعد الاتّفاق بين أنقرة وواشنطن على آليّة أمنيّة لضبط الحدود, والتصريحات المتكرّرة لوزارة الدفاع الأمريكيّة (بنتاغون) بحماية قوّات سوريا الديمقراطيّة (حليفتها في الحرب ضدّ تنظيم داعش), إلّا أنّ قياديّي المجلس الوطني الكردي يواصلون مساعيهم الرامية إلى دخول تركيا إلى المنطقة مبشّرين, من خلال تصريحاتهم, لاحتلال تركيّ جديد وإدارة جديدة لمنطقة شرق الفرات لن يكون لهم فيها موطئ قدم, تماماً كما حدث في حالة عفرين.. والسؤال الذي يطرح نفسه بهذا الصدد, لما كلّ هذا التمسّك من قبل بعض "قيادات المجلس الوطني الكردي في سوريا" بالدولة التركيّة  وسياساتها حيال كرد سوريا؟