في مذكراته.. "نبيل فهمي": ثورة ٣٠ يونيو أفسدت على تركيا كافة تحركاتها الجيوسياسية في الشرق الأوسط

تبقى إيران وتركيا القوتين الإقليميتين الأكثر تأثيرًا على الإقليم الذي يموج بتحديات وتغيرات كبرى، ولا يتوان البلدان في سياساتهما الخارجية تجاه المنطقة من إظهار أطماع الهيمنة والسيطرة التي تغلق الباب أمام أي تقارب فعلي معهما البلدين على اختلاف الأسباب.

تظل مصر رغم كل شيء رمانة ميزان المنطقة وقلبها النابض الذي به تتغير الكثير من المعادلات بل وتتحطم على صخرتها كافة الأطماع والمحاولات للهيمنة على الإقليم الأهم جغرافيًا والذي يقع في قلب العالم، وفي الوقت الذي تسعى فيه مصر لاستعادة ثقلها ودورها الإقليمي الذي تراجع في أوقات ودوائر مختلفة، تبقى تلك المحاولات من دول الجوار الإقليمي للمنطقة العربية للسيطرة والهيمنة على الإقليم بسبل مختلفة وإن ترافقت أو اجتمعت على بعض الأدوات المتشابهة في مساعي سياسات خارجية لا تريد لتلك المنطقة إلا أن تصبح تحت سيطرتها، وبالتأكيد تبقى مصر تقف في المواجهة لحماية الأمن القومي الإقليمي من كافة المحاولات المستميتة من قبل كل من إيران وتركيا للهيمنة على الإقليم الذي شهد على مدار العقد الماضي أصعب أزماته التي لا زالت مفتوحة على احتمالات كبرى بمزيد من الأزمات.

وفي تلك الأجواء صدر في القاهرة قبل شهور سيرة ذاتية لأحد وزراء خارجية مصر البارزين، وهو الدبلوماسي المصري نبيل فهمي، الذي تولى الخارجية المصرية في أصعب وأعقد الأوقات التي تعيشها مصر وذلك بعد إسقاط جماعة الإخوان بثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣، والتي سقط معها محمد مرسي وجماعته التي أنهت انتهازيتها الواضحة تاريخ مظلوميتها الممتد لعقود طويلة والذي كانوا به يتسولون عطف الشعب المصري.

وفي سيرة نبيل فهمي الذي جاءت بعنوان "في قلب الأحداث.. الدبلوماسية المصرية في الحرب والسلام وسنوات التغيير"، قدم نبيل فهمي، وهو وزير الخارجية السابق، ونجل وزير خارجية كان الوحيد الذي خرج وأعلن تقديم استقالته خلال مفاوضات كامب ديفيد وتداعيات مساعي السلام مع إسرائيل (إسماعيل فهمي)، رؤيته للأحداث وشهادته عن فترات غاية في الأهمية في تاريخ مصر والمنطقة، ومن بين هذه الأحداث يأتي حديثه عن تلك العلاقة الملتبسة بين مصر وكل من إيران وتركيا وذلك في فصل فند فيها حالة العلاقة مع الجارتين اللدودتين للمنطقة العربية، وقدم الرؤية المصرية تجاه البلدين، بداية من إيران أولًا والتي تمتد الأزمة معها إلى فترة قيام الثورة الإيرانية في ١٩٧٩ والتي سرعان ما أسهمت انتهازية الغرب في تحويلها إلى الخومينية، ليبدأ نظام هو الأكثر تهديدًا للمنطقة.

رغم أن مدة تولي نبيل فهمي لمنصبه لم تدم سوى قرابة العام (١٦ يوليو ٢٠١٣- ٨ يونيو ٢٠١٤)، لكنه خلال هذه الفترة وخلال عمله الدبلوماسي في وزارة الخارجية وتوليه مهام عدة منها منصبه كسفير لمصر لدى الولايات المتحدة خلال الفترة من ١٩٩٩وحتى ٢٠٠٨، إلا أن تلك التجربة تجعل كل ما يقدمه من قراءات تستند إلى حقائق واضحة من قلب المطبخ السياسي المصري وبالتالي الرؤية الواضحة المعلنة لسياسة مصر الخارجية تجاه البلدين الإشكاليين.

وفي كتابه يشير فهمي إلى تاريخ العلاقة بين مصر وإيران التي شهدت صعودا وهبوطا منذ فترة الملكية في مصر وزواج الأميرة فوزية شقيقة الملك فاروق بنجل الشاه رضا بهلوي الذي سرعان ما تسلم مقاليد البلاد بعد عامين من زفاف أسطوري لا زال يُذكر حتى الآن ليصبح آخر شاه لإيران، وليكون أيضا أحد أهم أسباب الخلاف والقطيعة الممتدة بين مصر وإيران الخومينية، حيث استقبله الرئيس المصري الراحل أنور السادات في مصر بعد خروجه من إيران في وقت تقطعت به السبل ولم يجد له أية وجهة يلجأ إليها بعد نجاح الثورة على حكمه.

كتاب وزير الخارجية المصري الأسبق والذي يعد بمثابة سيرة ذاتية ووطنية واعية يسرد فيها قصة مصر التي ترافق مسيرة حياته منذ ميلاده في ١٩٥١ في الولايات المتحدة وقت كان والده دبلوماسيا ممثلا لمصر، ليمر الوليد بثورة ١٩٥٢، ويرافق كل التحولات السياسية التي عاشتها مصر منذ هذا الحين بل ويكون قريب بصورة أو أخرى من المشهد حتى تقع ثورة ٢٠١١ والتي يراها بعين أخرى غير تلك العين الراهنة التي تسعى فقط إلى شيطنة حراك الشباب المصري الذي عاش أروع يوتوبيا في ميدان التحرير خلال ١٨ يوم منذ ٢٥ يناير وتصاعد المشهد في جمعة الغضب ٢٨ يناير وصولا إلى خطاب التنحي، لا فتا إلى عضويته في لجنة الحكماء والتحركات التي قاموا بها وكذلك المواقف الغربية والاتصالات التي كانت تأتيه من دوائر مختلفة بغرض فهم طبيعة ما يجري في ميدان التحرير ومن بعده ميادين مصر المختلفة.

تحمل تلك السيرة حالة الدبلوماسي القادر على الإمساك بتلابيب الكتابة، هو بالأساس يمتلك زمام الكلمة ومقالاته التي كان ينشرها سابقا في الصحف المصرية (المصري اليوم تحديدا) توضح ذلك، ونظرًا لأهمية ولفرادة الحالة فيما يتعلق بتركيا التي يخوض نظامها حتى الآن حربا شرسة كأنها إثبات للحضور بعد فشل كافة السياسات المتبعة، وكذلك إيران التي تتسارع سياساتها وتكسب بأساليبها المراوغة أراض جديدة في دول مختلفة وبمشاهد مختلفة يبقى حالة الفصل الذي يتناول إيران وتركيا، فتبقى حالة إيران التي تحتاج إلى قراءات موسعة، لاسيما أنه في تطرقه للفترة التي قاد فيها الدبلوماسية المصرية يتحدث عن رؤية الدولة المصرية الحقيقية للعلاقة مع ايران، ويكشف أن مكتب رعاية المصالح لدى مصر كان يضم شخصيات أمنية لم يكن مرغوب فيها من قبل مصر بل ويصرح بأنه أبلغ نظيره جواد ظريف، والذي كانت تجمعهما معرفة طويلة منذ سنوات الشباب التي قضاها كلاهما في الولايات المتحدة ممثلين لدولتيهما لدى الأمم المتحدة، بأن ممثل مكتب رعاية المصالح وقتها غير مرغوب فيه.. يتطرق الوزير السابق أيضا في حديثه عن الرؤية المصرية لعودة العلاقات مع إيران والتي لا تتوقف على الموقف الرسمي منذ مبارك الذي كان يعي أن الحوار مع إيران ليس ذو جدوى ورغم ذلك لم يكن يعارض أي مساع للتجريب لكن النتيجة كان يعيها مسبقا، ثم لتبقى رؤية أخرى وهي رؤية الأزهر الشريف وشيخ الأزهر الذي لم يتوان عن لقاءه وقتما كان في الوزارة ليدعوه صراحة إلى عدم المضي قدمًا في تطوير العلاقات مع ايران، مشيرا الى محاولات ايران المستميتة لنشر التشيع في مصر.

لم يكمل حقيقة الوزير فهمي عام كامل في الوزارة لكنه يكشف عن مسارات لإرهاصة حوار إيراني سعودي اتخذ مسارات عدة في تلك الفترة لكنه سرعان ما انتهى بعد سيطرة الحوثي على مقادير الأمور في العاصمة اليمنية صنعاء.

ومن إيران والحديث المتشابك حولها إلى تركيا التي لا تزال حتى اللحظة تتخذ مواقف غير مفهومة على الإطلاق من دول المنطقة عامة ومصر على وجه الخصوص وذلك برغم المساعي التركية الأخيرة لإعادة العلاقات مع مصر وجولتي المباحثات الاستكشافية التي جرت على مدار العام الماضي، وتلك الشروط المصرية التي لاتزال تركيا تراوغ بشأنها بل وتصر على التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية بطرائق مختلفة منتهزة الفرص ومدعومة بأطراف في تلك الدول تعطيها شرعية مزعومة.

وفي حديثه حول تركيا يذهب الوزير المصري السابق بالتاريخ بعيدا منذ ١٩٨٣ وتولي توركوت أوزال رئاسة الوزراء في تركيا ثم بعدها الرئاسة، معتبرا أن الطفرة الاقتصادية التي تحققت لتركيا آنذاك هي أول ما سمح بتنامي طموحها الإقليمي، لافتا الى ان تلك الفترة لم تشهد نزاعات كثيرة مع جيرانها، رغم دوام حساسية مسألة الكرد وما رافق ذلك من بعض التوترات على الحدود التركية السورية.

ومن هذه الحقبة ينتقل إلى بروز حزب العدالة والتنمية إلى الواجهة السياسية بعد وصول عبدالله جول الى رئاسة الوزراء في ٢٠٠٢ وما طرحه داود أوغلو وقتها من صفر مشاكل مع الدول المجاورة  رغم أن الحزب الذي ينتمي له أوغلو كان يثير مخاوف جمة لدى الدول العربية، والتي بدأت في التصاعد مع وصول رجب طيب أردوغان الى سدة الحكم وإثارته عدد من القضايا التاريخية القديمة التي أدت في النهاية بتركيا لأن تكون في عداء واضح مع الجميع، والذي تصاعد مع ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣، وتواري الإخوان عن مشهد الحكم في مصر بعد مواجهة شعبية لن تنسى.

يقول فهمي الذي أصبح بعد الثورة وزيرا للخارجية: إن تركيا صعّدت من هجومها السياسي على مصر منذ ذلك الحين وجعلته عنصرا أساسيا من سياستها الخارجية، وذلك بدرجة أثارت استغراب دول غربية بما فيها تلك التي كانت تتحفظ على خطوة الإطاحة بحكم مرسي، لافتًا إلى أن عدد من وزراء الخارجية الأوربيين نقل له ذلك مباشرة بل إن بعضهم استغرب من أن تركيا تريد منهم فرض عقوبات على مصر.

ويشير فهمي إلى أن تركيا التي كانت تسعى إلى تقديم نفسها بدهاء للعالم باعتبارها جسرا بين الحداثة الغربية والدولة المسلمة المعتدلة بعد احداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١وهو ما سمح لها بتوسع نفوذها وصولا الى ٣٠ يونيو كان رد فعلها على الإطاحة بمرسي وجماعته صاخبا وعنيفا، مؤكدا: : ليس من المبالغة القول إن كل حسور ترميا (وقتها) كانت تنهار إما بسبب السياسات المصرية وإما بسبب الأحداث التي تقع فيها.

الوزراء الأوروبيون كانوا مندهشين من حملة تركيا المسعورة على مصر ومساعيها المستمرة لفرض عقوبات عليها، وذلك بقيادة وزير خارجيتها وقتها احمد داوود أوغلو، ما كان يكشف أنه لأي درجة ما حدث في مصر بدد جل أحلام تركيا في تقديم نفسها زعيما للإسلاميين في الشرق الأوسط.

بالطبع لا ننسى الحديث التركي المطرد عن أوهام العثمانية، وذلك الحلم الذي كان يردده الإخوان في مصر بمشاهد مختلفة، لتعيد مصر بثورتها ترتيب المشهد الإقليمي وتُعيد تركيا إلى دائرة الإنطلاق الأولى التي كانت تتصور بها أنها قادرة على الهيمنة، ومن هنا بدأ أردوغان في تحين الفرص لتوجيه سهام الانتقاد إلى مصر، وهو الأمر الذي بحثت الإدارة المصرية سبل الرد عليه وقتها، والحديث على لسان فهمي الذي كان وزيرا للخارجية وقتها، بل إنه تحدث أن مصر كانت تبحث وتناقش منذ اللحظات الأولى سبل الرد وكانت هناك خيارات اعتبرها سهلة، وهي الرد بإلقاء الضوء على معاناة الكرد في تركيا والمذابح التي تعرض لها الأرمن على يد الأتراك خلال فترة الحرب العالمية الأولى، وهو مالم يحدث وقتها، لكن وبعد استمرار التدهور في العلاقات عبر تصريحات رموز النظام التركي وصخب أردوغان المتواصل ضد مصر جاء قرار سحب السفير المصري لدى تركيا وإبلاغ السفير التركي بضرورة مغادرة القاهرة فورا.

يتطرق الوزير المصري السابق إلى كيف تحولت تركيا من دولة تتبنى سياسة صفر مشاكل إلى دولة تتدخل في صراعات كل الجيران، بل إنه بات خلال تلك الفترة أن النظام التركي يسعى إلى تحقيق طموحاته الجيوسياسية حتى لو كان على حساب الجيران. وهذا ما يحدث بوضوح هذه الأيام في حرب تركيا المفتوحة على منطقة الدفاع المشروع، والغرض الرئيس هنا هم الكرد الذين يقول بشأنها: إن تركيا أحيت النزاعات الحدودية التاريخية مع كل من سوريا والعراق ووضعت نفسها في مواجهة مع الغرب وأوروبا من أجل حماية مصالحها في الملف الكردي، وبدأت تتحرك بقوة نحو روسيا التي اكتسبت نفوذا كبيرا في الشرق الأوسط وبخاصة في منطقة الشام.

ولا يتوقف فهمي عن حصر أطماع تركيا في المنطقة وسياستها التوسعية العدوانية حيث مولت بكثافة العديد من الجماعات المسلحة في ليبيا، ووسعت علاقتها بالصومال وشرق افريقيا بل ووجدت لنفسها موطيء قدم في القرن الإفريقي بهدف الضغط على مصر وغيرها من الدول العربية المناوئة لها والتي لها مصالح في المنطقة، والتي كانت كلها بمثابة خطوات معدت الأرض أمام ما وصفه بكونه تدخل جيوسياسي كثيف لتركيا في الشرق الأوسط.