أحمد شيخو: تركيا في المعادلة الإقليمية بين مدريد وجدة وطهران لإبادة الكرد وتطبيق العثمانية

إن الدولة القومية التركية ذات الأمة النمطية الدولتية التي تم فرضها بالقوة والإكراه وعبر الإبادات الجماعية، هي إحدى المصائب التي حلت على المجتمعات وشعوب المنطقة من قبل السلطات الدولتية القومية وبدعم ومساندة القوى المركزية في نظام الهيمنة العالمي.

أكبر مصيبة وكارثة حلت على مجتمعات وشعوب المنطقة، تتمثل في الدول القومية الأحادية ذات الأمة النمطية الدولتية التي تم فرضها بالقوة والإكراه وعبر الابادات الجماعية وبمختلف أشكالها المادية والمعنوية، من قبل السلطات الدولتية القومية وبدعم ومساندة القوى المركزية في نظام الهيمنة العالمي الذي تشكل بعد الحربين العالمية الأولى والثانية.

إن الدولة القومية التركية إحدى هذه المصائب والنماذج الفاشية التي تم تشكيلها وترتيبها وتنظيم آليات الحكم والسيطرة والقوة والسياسة فيها منذ عام 1925 وثم مع دخولها لحلف الناتو في عام 1952 وإلى اليوم، لتوافق أجندات الهيمنة العالمية في المنطقة والعالم وفق الأدوار والوظائف التي تم تكليفها بها والتي على أساسها نالت الدولة التركية المشكلة من رحم وبرجوازية وبيروقراطية الإمبراطورية العثمانية، الشرعية والرضى والتواجد في أهم محفل عسكري دولي حلف الناتو.

ولكون النموذج القومي المفروض لا يتناسب مع حقيقة المنطقة وتاريخها المشترك وثقافتها التي تتميز بالتكامل الديمقراطي و بالتنوع والتعدد الاثني والديني والمذهبي، ظلت السلطات والدول القومية رهينة الحسابات ومصالح القوى العالمية  ومتواطئة معها وأخذت تنال شرعيتها من التوافق والعمل وفق تلك المصالح بعيداً عن مصالح المجتمعات والشعوب في المنطقة، بل أن هذه الدول والسلطات عمدت إلى احتكار كل وسائل القوة والدفاع والعمل والساحات السياسية والاقتصادية والأمنية لتأمين وجودهم ووجود هذه الأنظمة القومية الفاشية والدكتاتورية.

 إن ثلاثي الهيمنة(أمريكا، بريطانيا وإسرائيل) هم من جلبوا أردوغان وحزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا لزوم المرحلة الاستراتيجية في المنطقة وقيامه بتطويع القومية الشيعية الإيرانية والإسلاموية السياسية والعلمانية والقومية العربية  وإرفاقهم بالنظام العالمي كمتعهد للمنطقة كما قال في 2006 وتم تقديم كل أنواع المساعدات الاقتصادية والعسكرية والإعلامية والسياسية لتركيا الأردوغانية وخاصة في حربها وإبادتها للشعب الكردي عبر دعم الناتو المستمر وبكافة أنواعه، إلى أن سلطات حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية التركية لم ترضى وهي تطالب بالمزيد ، وربما نتيجة مقاومة الشعب الكردي وإصراره على كرامته وحريته وصموده والقوة الفعلية التي يشكله في المشهد المحلي والإقليمي كفاعل في المنطقة، جعلت الأولويات تختلف أحياناً بين الدولة التركية ونظام الهيمنة العالمية فيما تخص القضية والقوى الكردية، كون القضية الكردية لها بعد عالمي تم رسمها وتحديدها وفق مصالح نظام الهيمنة العالمية واستمرار هيمنتها.  تصر الدولة التركية القومية وسلطاتها الفاشية وخاصة السلطة الحالية التي تمثل التركيب القوموي والإسلاموي والذكوري(الجنسوي) المصطنع الأداتي بكافة مقارباتها وسلوكه الفاشي الإلغائي ومعادلتها الصفرية تجاه الأخر المختلف قومياً ودينياً  إلى إبادة الكرد وإنهائهم عبر التعامل والحل الأمني والعسكري فقط  وتطبيق العثمانية الجديدة وهنا تجسد الدولة التركية حالة  تضخم سلطوي وأزمة غير قابلة للحياة والاستمرارية  والمنفعة المتبادلة حتى  للهيمنة العالمية التي باتت تريد تغير بعض الأولويات والأدوات الوظيفية في المنطقة وإدخال بعض التعديلات على مقاربات الدول القومية.

للدولة التركية القومية وسلطاتها الحالية وبالإضافة إلى وجودها ضمن المنظومة الغربية وحلف الناتو تحالفين أساسيين عضويين أخرين متصاعدين وباتا يشكلان حلقة مهمة للسلطة التركية ومقارباتها وسياساتها الخارجية والداخلية، لكون تحالف تركيا ووجودها ضمن حلف الناتو لم يساعدها بالشكل الكافي وفق الرؤية التركية لإبادة الكرد وتصفيتهم وإلحاقهم بأمة الدولة التركية المتجانسة رغم كل دعم حلف الناتو المستمر لها حتى اليوم والحلفين الجديدين هما:

1- تحالف تركيا مع داعش:

يأتي هذا الترابط والتوافق العضوي للسلطات التركية مع حركات الإسلام السياسي لكون الخلفية العقائدية المضللة  وهدف الوصول إلى السلطة والحكم والتمسك بها وتحت استثمار واستغلال الدين الإسلامي ومقدسات شعوب المنطقة هو مشترك بين الجهتين، وكلا الجهتين هما أدوات لنفس الجهة العالمية الاحتكارية التي وظفت الأثنين لضرب الأمن و الاستقرار وخلق الفوضى في المنطقة وخاصة في العقد الأخير، وكانت تركيا الجهة الإقليمية الوحيدة التي تعاملت سياسياً مع داعش في سوريا  والعراق مع تقديم كل مطارات وموانئ تركيا وطرقها وأرضها في خدمة التجنيد العالمي لداعش من مختلف بقاع العالم وأدخلت تركيا حوالي 162 ألف داعشي إلى سوريا والعراق، وعندما لاحت هزيمة داعش على يد الشعب الكردي والعربي وشعوب المنطقة وبالتعاون مع التحالف الدولي تقدمت تركيا واحتلت مناطق الشمال السوري والمثل ومنذ 2015 وضعت استراتيجية لاحتلال شمالي العراق.

وفي هذه المناطق المحتلة جمعت بقايا داعش والقاعدة وقادتهم وعملت على إعادة تدويرهم فيما يسمى الجيش الوطني السوري ذراعها وبديلها الاساسي عن داعش بالإضافة إلى التشكيلات التركمانية وبعض الأسماء المختلفة في العراق، علاوة على دعمها لخلايا داعش في سوريا والعراق وأغلب دول المنطقة.

2-    تحالف تركيا مع روسيا وإيران:

 وهذا التحالف أو العلاقة بدأت بالتشكل لعدم اقتناع تركيا وشكوكها و قولها بعدم كفاية الدعم المقدم لها  من المنظومة الغربية بقيادة أمريكا وإسرائيل في حربها وممارساتها الإجرامية ضد الشعب الكردي،  أو لوجود اختلاف في الأولويات بينهم ، حيث أن تركيا ترى بأنها تستطيع وعبر هذا التحالف تحقيق هدفين أولاً تشكيل ضغط على الناتو والمنظومة الغربية بأنها يمكن أن تكون في الحلف المضاد وكذلك لعدم استفادة الشعب الكردي من حالة الغليان والثورات والفراغات في المنطقة  ولتشكيل سد وموانع نتيجة وحصيلة تحالف وعلاقات تركيا مع روسيا وإيران أمام الكرد ونضال حريتهم وتعاونهم مع شعوب المنطقة، لما لروسيا وإيران من نفوذ ومصالح في المنطقة وخاصة في سوريا والعراق.

لكن هل تستطيع تركيا من استمرار اللعب في المنطقة الرمادية أو استمرار محاولتها في الابتعاد عن حلف الناتو والمنظومة الغربية وهل يسمح لتركيا بأن تنقطع عن نظام الهيمنة العالمي الرأسمالي وفق ماهيتها وهيكلتها الحالية وانطلاقاً من الوجودِ الذاتيِّ والتوازناتِ العَينيةِ لما يسمى لجمهوريةِ التركيةِ الحالية، فإنّ عبورَ هذا الطريقِ أمرٌ صعبٌ للغاية، وإنْ لَم يَكُنْ مستحيلاً. وحالة عدنان مندرس وأوزال وبولنت أجاويد وسليمان ديميريل وغيرهم ربما ليست ببعيدة عن أردوغان وحزبه. وإن تم فالقضية الكردية وحسب الحالة التقسيمية التوظيفية وفق لوزان وسايكس بيكو من الهيمنة العالمية حاضرة لتلقي الدعم والإثارة لطرح كردستان المستقلة لإركاع أردوغان وكل الدولة التركية وربما الدول الأربعة التي تم تقسيم كردستان بينهم والمنطقة برمتها.

ربما تحصل تركيا وحصلت على مكاسب مرحلية ومؤقتة من تحالفاتها وعلاقاتها مع داعش من جهة ومع إيران وروسيا من جهة ثانية، لكن تطوير هذه التحالفات إلى مراحل ومستويات أعلى ربما لن يكون مسموح لها من قبل نظام الهيمنة العالمية ونواتها في المنطقة إسرائيل، حيث أن لإسرائيل موقف واضح من أن البرجوازية الأناضولية التركية عليها أن تعرف حجمها ومقدار قوتها وألا تكون في الموقع المنافس لها على مستوى المنطقة.

كما أن اتفاقات أبرهام بين الدول العربية وإسرائيل علاوة على المشهد الأخير في قمة جدة والحضور الأمريكي فيها بعد إعلان القدس وقبلها الاجتماعات في النقب والبحرين والحديث عن هياكل إقليمية سياسية واقتصادية وعسكرية وغياب تركيا فيها، إنما يشير بوضوح أن المشهد الإقليمي والعالمي لن يكون مريح لتركيا أو أن تركيا لن تكون بذات الأهمية كما السابق حيث أكده قول أردوغان عندما قال لن تسمح بإبقاء البلاد خارج اللعبة بينما تعاد هيكلة مراكز القوة السياسية والاقتصادية العالمية". رغم أن أردوغان وفي السنة الأخيرة حاول إظهار بعض الانعطافات ولو شكلياً وتكتيكياً ومرحلياً لكن وكما هو معروف لا أحد يثق بتركيا وسلطتها الحالية من كافة الدول حتى التي زارها أردوغان مؤخراً في المنطقة.

من الممكن أن الأزمة الأوكرانية أعطت أردوغان والدولة التركية دعم ومساحة حركة بين القوى المتصارعة وعمر أطول بقليل كما أكدتها النقاشات والاتفاقات في قمة الناتو في مدريد والاتفاق بين تركيا من جهة  وأمريكا و أوروبا من جهة ثانية لكن ليس بالمكانة التي يتخيلها ويريدها أردوغان وتركيا  خاصة  مع تقيد الكونغرس لبيع طائرات  F-16 الأمريكية بشروط و مع رفض القضاء السويدي تسليم أحد المطلوبين من قبل السلطات التركية، علاوة على التداعيات والتأثيرات والضغوطات التي تتزايد يومياً على الداخل التركي وسياستها الخارجية المضطربة أصلاً واقتراب استحقاق الانتخابات التي يتخوف منها أردوغان بشكل كبير بسبب الحالة الاقتصادية والديمقراطية السيئة والقلقة وتدني شعبيته وحالة استمرار حروب تركيا  العبثية التي يريد منها أردوغان فقط رفع شعبيته ووجوده  واستمراره في الحكم .

ما الحل أمام هذا الوضع التركي المعقد، هل تستطيع تركيا أن تنال الدعم والمساندة الكافية في حربها ضد الشعب الكردي ومحاولتها لتطبيق العثمانية الجديدة في المنطقة واستهدافها وتدخلها في الدول والشعوب العربية وتشكيلها لجيوش المرتزقة مع وقوفها مع إيران وروسيا وربما الصين وتناغمهم في العمل والحديث ضد مصالح نظام الهيمنة العالمية وقواها الرئيسية، بالطبع لا يمكن أن يكون إلا مرحلياً وإلى حين توفر الظروف للإطاحة بأردوغان وحكمه وحزبه إن لم يكن الإطاحة بالدولة التركية في حال تمسك السلطة الحالية بالحكم والتفرد في العمل الإقليمي ورغبتها في العمل والظهور المضاد كما حصل في قمة طهران و نصائح أردوغان لأمريكا  وتوجيهاته لها وكأنه يريد من أمريكا ترك فراغ تستغله روسيا وإيران والصين وبالتوافق مع المصالح وأجندات أردوغان وسلطته والدول القومية التركية في الوقت الذي أكد فيه الرئيس الأمريكي بايدن أن أمريكا لن تترك فراغ تستغله روسيا والصين كأهم رسالة استراتيجية وجهه في تجواله الأخير في المنطقة.

إن مركز السياسة واستراتيجية الدولة القومية التركية هي حربها وإبادتها للشعب الكردي ولذلك فالدولة التركية والسلطة الحالية الأشد حقداً وتوحشاً وإرهاباً ودعشنةً، حتى إلى مستوى استعمال الأسلحة الكيماوية والنووية التكتيكية ضد ابناء وبنات الكرد والمدنيين الكرد وقصف المنتجعات السياحية وقتل  وجرحى العشرات من الزوار العرب الذين يزورون المناطق الكردية وهي تقول بذلك كل من يتحرك في كردستان يجب إبادته وإمحائه كما قال الطيار التركي الذي كان مشاركاً في قصف المدنيين في مجازر ديرسم ووادي زيلان حيث قال أحد الطيارين أن أمر السلطات له كان قصف كل شيء يتحرك في المناطق الكردية حتى لو كان شجرة أو حيواناً.

إنّ استمرار حرب الإبادة الجماعية الفريدة وتصفيةَ الكردِ مؤشر أوليّ في تصعيدِ كافة المجريات السلبية داخل ما تسمى الجمهورية التركية وحتى المنطقة برمتها، وبالعكس إنّ تطوّر ما تسمى الجمهورية التركية أو المنطقة على أرضية إيجابية تسبقها خطوة التحويل الوطني الديمقراطي وبناء الديمقراطية أيضاً وهو معنيٌّ بنيلِ الكردِ لحريتَهم وحقوقهم وعيشهم المشترك الحر والديمقراطي والاعتراف والاحترام المتبادل عبر الإدارة الذاتية وضمانه بحق الدفاع الذاتي والسياسية الديمقراطية وضع ذلك في الدستور الديمقراطي التوافقي. وقد أظهَرَ تاريخُ تركيا او الجمهورية الممتد منذ حوالي مئة عاماً وكذلك تاريخ المنطقة هذه الحقيقةَ بكلّ وضوح. وهذا الطريق أي طريق الحل الديمقراطي، يمكن أن يمثل السبيل الصحيح لخروج تركيا وكذلك المنطقة من براثن القومية السلطوية التركية والأدوار والحالة الوظيفية للهيمنة العالمية، وإلا وبالإصرار على المقاربات القوموية والإسلاموية والذهاب يميناً ويساراً  والتوسل لنيل الدعم والمساندة لمحاربة الشعب الكردي ووضع العراقيل أمام حقوقه وتبلور كيانيته الحرة والديمقراطية مع شعوب المنطقة لن يفيد بشيء رغم أنه مازال أردوغان وتركيا تنال كافة أنواع الدعم والمساندة في حربها ضد الشعب الكردي وشعوب المنطقة من الناتو والطرف الذي يدعي معارضه له وحتى من كثير من دول العالم والمنطقة وبعض القوى إما بدعمهم المباشر للدولة التركية وحروبها أو بصمتهم وسكوتهم على الجرائم وممارسات الدولة التركية الفاشية وابتعادهم عن فهم حقيقة النضال الكردي الحر والديمقراطي والعادل (وفق كل القوانين والمواثيق الدولية والأعراف والكتب السماوية) وعدم قيامهم بتجاوز العلاقة التكتيكية إلى الاستراتيجية بالتحالفات الديمقراطية مع الشعب الكردي وحركة حرية كردستان وخط أخوة الشعوب الديمقراطي وحرية المرأة ضمن الأمة الكردية التي تشكل العائق والمانع الوحيد أمام تمدد تركيا وتوسعها و تدخلها واحتلالها المزيد من أرضي دول وشعوب المنطقة بالحرب الشعبية الثورية التي تقوم بها من عفرين و الشهباء وحتى آمد وسرحد و ديرسم وخاكورك وزاب وأفاشين ومتينا وإلى شاهو ودالاهو وشنكال وأسوس، أما التعويل على غير شعوب ومجتمعات المنطقة الأصليين وكذلك البناء والعمل اعتماداً على الذهنيات الاستشراقية والانتظار من الدول القومية الأخرى أو الهيمنة العالمية والقوى الإقليمية التي لها مشاريع خاصة للسيطرة والنهب و للهيمنة فلن يفيد سوى بتكرار الدوامة السابقة وانطلاق شرارات حروب أهلية وتقسيمات مضافة وإضعاف لكل المنطقة ودولها وشعوبها وتعميق الأزمات والقضايا الموجودة وليس حلها وفق الكثير من الادعاءات والأحاديث الفارغة التي لا تفيد سوى قوى التآمر والتواطؤ  والعمالة من القومية السلطوية والإسلاموية وكذلك نظام الهيمنة العالمية الاحتكارية الرأسمالية.