اللغة هي الزخم أو الارث المجتمعي للذهنية والاخلاق والجماليات والمشاعر والافكار التي اكتسبها مجتمع ما، وهي تاريخ وهوية الشعوب، ولذا مستوى رقي اللغة هي مستوى تقدم الحياة، ولكي تحافظ الشعوب على لغتها الأم تضطر أحياناً للنضال والتضحية، ومن هنا كانت انطلاقة ثورات اللغة والتي انتجت اليوم العالمي للغة الأم.
ومن أسباب ظهور اليوم العالمي للغة الأم ثورات الشعوب ونضالها من أجل الحفاظ على لغتها، ومنها انتفاضة الحركة اللغوية البنغالية التي كانت بداية للإعتراف بالتنوع اللغوي والثافي في الدول والبلدان.
ماهي الحركة اللغوية البنغالية؟
قامت الطبقات الوسطى المناهضة في بنغال الشرقية “جمهورية بنغلاديش الحالية قبل انفصالها عن باكستان، والاقليم الشرقي لباكستان بعد الاستقلال” خلال سنتي 1950-1952، بانتفاضة عرفت لاحقاً بـ”الحركة اللغوية البنغالية” وقامت الحكومة المركزية الباكستانية المتمركزة في غرب الباكستان وعلى لسان محمد علي جناح الحاكم العام للبلاد في اجتماع جماهيري في21آذار عام 1948باعلان فرض اللغة الأوردية مما دفع البنغاليين إلى خلق هذه الحركة كردة فعل، وكانت الأوردية لغة الأقليم ولغة النخبة آنذاك، إلا أنه فرضت لغة وطنية وحيدة يتم التداول بها على الأراضي الباكستانية وهو القرار اللاديمقراطي الذي باركه حاكم البنغال الغربية خواجه نظام الدين.
واحتجاجاً على القرار قام الطلبة بالتظاهر والدخول في اضراب وطني عام في بنغال الشرقية، وقامت الشرطة الباكستانية بفتح النار عليهم، راح ضحية هذا العنف خمسة من الطلبة البنغاليين بالقرب من كلية الطب في مدينة داكا، العاصمة الحالية لجمهورية بنغلاديش وذلك بتاريخ 21 شباط/فبراير 1952.
ونتيجة لذلك العنف من جانب البوليس، أمتدت الاحتجاجات العارمة لتعم سائر الأقاليم البنغالية، مما أضطر الحكومة المركزية فيما بعد الاعتراف باللغة البنغالية كلغة تتداول على قدم المساواة مع اللغة الأوردية في باكستان، وقد قامت الحكومة البنغالية بتشييد نصب لشهداء الحركة أمام كلية الطب في داكا يعرف بنصب “شهيد منار”.
اليوم العالمي للغة الأم
وبعد عدة عقود من الزمن على هذا الحدث وسعيا إلى تشجيع التنوع اللغوي والثقافة المتنوعة الى جانب حفظ التقليد والتراث اللغوي بشكل يعزز التضامن بين البشر ويؤسس للتفاهم المتبال والحوار والتسامح بادرت اليونسكو إلى تخليد هذا اليوم تحت عنوان” اليوم العالمي للغة الأم” و في 17تشرين الثاني/نوفمبر من عام1999 حينما جاء اقتراح من بنغلادش وافقت المنظمة عليه وبدعم من28دولة للاحتفال بهذا اليوم في مشروع القرار الصادر عن المؤتمر العام لمنظمة الامم المتحدة للتربية والعلم والثقافة.
وبدأت اليونسكو تحتفل بهذا العيد كمناسبة تدعو جميع أعضاء هذه المنظمة الدولية للمشاركة في هذا الاحتفال من أجل الحفاظ على التنوع الثقافي واللغوي وتعدد اللغات، وباتت اللغة في صلب أهداف منظمة اليونسكو.
وفي 16أيار/مايو 2007أهابت الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارهاA/RES/61/266بالدول الأعضاء التشجيع على المحافظة على جميع اللغات التي تستخدمها شعوب العالم وحمايتها، وأعلنت الجمعية العامة في نفس القرار سنة 2008باعتبارها سنة دولية للغات، لتعزيز الوحدة في أطار التنوع ولتعزيز التفاهم الدولي من تعدد اللغات والتعدد الثقافي.
كما خصصت جائزة توزع في هذا اليوم على “اللغويين والباحثين ونشطاء المجتمع المدني لقاء عملهم في مجال التنوع اللغوي والتعليم المتعدد اللغات”. وشُرع بتوزيع هذه الجوائز منذ عام 2002، وحاز عليها 13 شخصاً ومؤسسة تعليمية من 11 بلداً. وراح الجميع يبدون اهتمامهم بحفظ لغة الأم.
ويتكلم سكان العالم بما يزيد عن6000لغة، بعضها يهددها الانقراض وخاصة في منطقة الشرق الاوسط، إضافة الى سكوتلاند، الهند، كندا،يابان، ماليزيا، المكسيك، الارجنتين، وبحسب الدراسات فقد انمحت في العهود الماضية أكثر من200لغة من ميدان التداول.
وانسجاما مع” يوم لغة الأم العالمي” وتوصيات اليونسكو في هذا المجال يتوجب على السلطات وخاصة المؤسسات التي تعني بالتربية، التعليم، العلوم، الأدب والثقافة ان تعير أهمية خاصة للغة الأم وتجلياتها في بلد كالمغرب الذي يتسم بالتعددية اللغوية والثقافية.
اللغة الأم في النهاية مسؤولية الجميع، سواء اعتبرناها لغة غير قابلة للتطور أو عكفنا على التراث وكأنه الكنز الوحيد الذي نملكه، فتفكيرنا هو نقطة الارتكاز في هذه اللغة المستمرة فينا، لكنها في النهاية تحلق بنا عندما نقرر أن نتحرر من نمطية المفردات ووضعها في مساحة من الدهشة. فعندما نقلق على اللغة يبدأ الإبداع بالظهور.
اي بقدر ما يرتقي مجتمع ما بلغته الأم يكون قد ارتقى بمستوى الحياة، وبقدر مايخسر مجتمع ما لغته ويدخل تحت حاكمية ونفوذ لغات اخرى يكون مستعمرا ومتعرضا للصهر والابادة بالمثل.
أمثلة عالمية عن لغات فرضت نفسها ولم تقبل الصهر
أوربا
حصلت الكثير من البلدان في القارة الأوروبية ونتيجة النضال المرير الذي خاضتها على حقها في التعلم باللغة الأم. والمثال الأكبر على ذلك هي اللغة الإيرلندية في جمهورية إيرلندا التي كانت ترزح تحت النير الإنكليزي، وكذلك اللغة الغالية التي كانت بدورها تتعرض لضغوطات الإنكليز. بالإضافة إلى اللغة الكتالونية والباسكية في الإقليمين المستقلين وكانتا مرتبطتين باللغة الإسبانية واللغة الكورسيكية وكانت مرتبطة باللغة الفرنسية.
المغرب العربي
وتوصل البحث الذي أجراه مركز البحوث الإنسانية والاجتماعية والذي يتخذ من مدينة وجدة المغربية مقراً له، عن التعليم باللغة الأم في بلدان العالم إلى أن “البلدان المتقدمة لا تعتمد في نظامها التعليمي على لغات أجنبية. الدول الأوروبية، الأمريكية والآسيوية والتي تعتمد في نظامها التعليمي على لغاتها القومية هي بلدان متقدمة. أما البلدان التي تعتمد في التدريس على اللغات غير اللغة الأم فوضعها الاقتصادي يوضح أن هذه البلدان متخلفة. وهذا بدوره يؤكد أن التعلم باللغة الأم يعد شرطاً أساسياً للتقدم والتطور في أي بلد”.
وفي المغرب العربي “فاس” أيضاً ومنذ الفتوحات الإسلامية وحتى أوائل القرن الـ 20، وفي زمن الاحتلال الإسباني والفرنسي، كان هناك مشاكل في مجال اللغة.
وحينها أصبحت لغة التعليم بلغة الدول المهيمينة والمحتلة للمغرب، وحتى بعد التحرير لم يكن بتلك السهولة تغيير لغة التدريب وإعادة اللغة العربية إلى اللغة الرسمية للبلاد والتدريب، لذلك وفي عام 1960 تم تدريس كل من مناهج “الفلسفة، التاريخ، والجغرافية” باللغة العربية في نظام التدريس بالمغرب.
وبعد ذلك وفي منتصف عام 1980 أعطيت الدروس العلمية في المرحلتين الإعدادية والثانوية باللغة العربية.
ولكن مشاكل المناهج والمصطلحات وقفت عائقا أمام تسلسل إعطاء كافة مناهج التعليم باللغة العربية، وتركتها في المنتصف.
والآن في المغرب العربي نظام التدريس في الجامعات هي باللغات الأجنبية، لذلك يضطر الطلبة الدراسة 12 عاماً باللغة العربية حتى الحصول على شهادة البكلوريا، وبعدها يدرسون في الجامعة باللغة الفرنسية.
وحتى الآن لم تحل مشكلة لغة التعليم في المغرب العربي.
ومن الواضح ان المجتمعات التي تحيا هذا الواقع لن تتتمتع بحياة مفعمة بالمعاني ذهنيا وخلقيا وجماليا بل سيحكم عليها بحياة مأساوية الى ان تمحى وتفنى بوصفها مجتمعات مريضة.