مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات: استخفاف الرئيس التركي المُستبد بالإرادة الشعبية حوّل إنتخابات إسطنبول لمعركة بقاء

تدخل مدينة إسطنبول خلال أيام معركة ليست فقط للحفاظ على خصوصيتها كرمز للتعددية ولتأكيد الإرادة الشعبية التي هزمت مرشح حزب العدالة والتنمية الحاكم قبل إلغاء النتائج، ولكنها تمثل معركة مصغرة حول مستقبل الجمهورية التركية.

وقالت مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات وهي معهد بحثي أمريكي غير ربحي، أن تركيا تتجه نحو الانتخابات الأكثر غرابة في تاريخها الحديث. فبعد أن خسر حزبه منصب عمدة اسطنبول أمام مرشح معارض في ربيع هذا العام، أمر الرئيس التركي المستبد بإعادة الانتخابات في المدينة دون مبرر قانوني موثوق به. وأعتبر التقرير أن استخفاف الرئيس رجب طيب أردوغان الصارخ بالإرادة الشعبية جعل الانتخابات المقبلة في 23 حزيران/ يونيو بمثابة معركة بقاء من أجل الديمقراطية في مقابل الإستبداد، حيث يعمل على حشد الملايين في جميع أنحاء تركيا خلف معركة منصب عمدة إسطنبول المتواضع، ويقاتل الرجل القوي للحفاظ على سلطته التي وصل إليها بشق الأنفس.

وتابع التقرير: "​قبل 6 فصول صيف أثارت جهود أردوغان لإعادة هندسة المجتمع التركي اول رد فعل عنيف على نطاق واسع خلال عام 2013، ليعود الربيع مجددا إلى أسطنبول في آذار/ مارس الماضي بعد فوز المعارضة بالانتخابات المحلية التي غير نظام أردوغان نتائجها"، في تحدي للإرادة الشعبية، ومستغلا إتهامات تطعن في وطنية وعقيدة خصومه كما جرت العادة في السياسة التركية.

وأكدت المؤسسة أن إعادة التصويت في إسطنبول تعني أكثر بكثير من مقاومة عملية الاستيلاء على السلطة خارج نطاق القانون، بل هي معركة من أجل روح تركيا - سباق بين نظام الرجل الواحد المستبد وطرف آخر يسعى للديمقراطية التعددية.

هزيمة منكرة لأردوغان.. ومحاولات تشويه

وأكد التقرير على مدى الهزيمة المنكرة التي تعرض لها الرئيس التركي بخسارة إسطنبول بعد أن ساهم بنفسه في الحشد للمرشحين من حزب العدالة والتنمية والتحالف القومي، واشار التحليل الذي أعدته الباحثة ميرفي طاهر أوغلو والباحث أيكان أردمير إلى أن أكرم إمام أوغلو فاز بالانتخابات البلدية في إسطنبول في 31 آذار/ مارس كمرشح لحزب المعارضة الرئيسي المؤيد للعلمانيين في تركيا، ولكن أيضا بدعم أساسي من ائتلاف أوسع من الناخبين. و"على الرغم من جهود أردوغان لوصف المعارضة برمتها على أنها إرهابية، فقد مرشحه المنصب في هزيمة منكرة. الآن في السباق على جولة الإعادة، ركزت وسائل الإعلام الخاصة بالرجل القوي (أردوغان) والمسؤولين المخلصين له على نشر حجة جديدة لتقويض خصومهم: وهي أن إمام أوغلو "يوناني"، مشيرا إلى مسقط العمدة المنتخب مؤخراً في طرابزون، وهي مدينة تركية ساحلية على البحر الأسود التي عاش فيها سكان من اليونانيين الأرثوذكس تاريخيا، ادعى مسؤولون من حزب العدالة والتنمية الحاكم في أردوغان أن إمام أوغلو هو يوناني مستتر - وأن مناصري إمام أوغلو في طرابزون هم يونانيون "يتنكرون كمسلمين". وأخيرا، تحدث أحد نواب رئيس حزب العدالة والتنمية عن "العديد من علامات الاستفهام" المحيطة بالهوية الإثنية والدينية لإمام أوغلو، وطالب إمام أوغلو بإثبات أن روحه وقلبه وعقله مع الأمة التركية".

وأشار التحليل إلى أن المزاعم حول قومية إمام أوغلو ودينه، تعكس الواقع الكئيب والعنصرية التي تعيشها تركيا ضد كل ما هو غير تركي وغير مسلم، واضاف: "الإتهامات ومزاعم الهوية غير المسلمة وغير التركية تجاه الخصوم السياسيين هي تشهير شائع في السياسة التركية. يواجه كل زعيم تركي مؤثر تقريبًا، منذ مؤسس البلاد العلماني مصطفى كمال أتاتورك إلى نقيضه الإسلامي أردوغان، مثل هذه الاتهامات. ولطالما احتوت معظم الأحزاب والفصائل التركية عبر الطيف السياسي على خصومات عميقة تجاه الأقليات غير المسلمة وغير التركية في تركيا، وهو واقع كئيب يعود إلى رحلة البلاد المضطربة من إمبراطورية متعددة الجنسيات إلى "دولة قومية تركية". وبالنظر إلى اعتناق أردوغان نفسه للشعبوية القومية بعد عام 2015، كما تجسده مقالته "أمة واحدة، علم واحد، وطن واحد، دولة واحدة"، فإن المعارضة بإمكانها أن تتجاهل المزاعم ضد إمام أوغلو كتصريح عنصري آخر من قبل حزب العدالة والتنمية والتحالف الإسلامي القومي المتطرف."

مدينة واحدة ومعركة بين رؤيتين

أصبحت عملية إعادة التصويت في إسطنبول نموذجًا مصغرًا للمعركة الأوسع نطاقًا بين رؤيتين متنافستين للجمهورية التركية.

في الانتخابات البلدية التي جرت في 31 آذار/ مارس، خسر حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه أردوغان المدن الكبرى في تركيا، والتي تمثل اقتصاداتها حوالي ثلثي الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. ووجهت الخسارة لأردوغان ضربة قوية. ولكن، كما تظهر جولة الإعادة القادمة، لا توجد هزيمة تضاهي معاناة خسارة اسطنبول. ينظر أردوغان إلى أهمية اسطنبول له كسياسي وأيضًا كإسطنبولي، وهي حقيقة أساسية لهويته. ولا يدرك أردوغان جيدًا قوة إسطنبول المالية فحسب، بل يدرك أيضًا قوتها الرمزية. رغم أنه يحاول حكم تركيا بقبضة حديدية، فإن رؤية أردوغان الإمبريالية تحتاج إلى قوة إسطنبول، كما حذر أردوغان منذ فترة طويلة قائلا: "إذا فقدنا اسطنبول، فإننا نفقد تركيا".

وتابع التقرير: "اسطنبول ليست مدينة عادية. إنه أحد أكثر رموز التنوع والتعايش قوة في العالم. العاصمة العالمية للإمبراطوريتين العثمانية والبيزنطية لقرون، وتحمل اسطنبول معنى عميقًا للمجتمعات العرقية والدينية التي لا تعد ولا تحصى في جميع أنحاء العالم. حتى بعد انتقال تركيا إلى دولة قومية في أوائل القرن العشرين، واصلت إسطنبول استضافة أكبر تجمع للأقليات في تركيا. مع المساجد والكنائس والمعابد الرائعة، ظلت إسطنبول نُصبًا للتنوع. في نظر عدد لا يحصى من الكتاب والفنانين والمفكرين، ولطالما كانت إسطنبول هي التي جعلت تركيا "جسرًا بين الشرق والغرب" - وهي استعارة يفخر ملايين المواطنين الأتراك بتسويقها حتى يومنا هذا."

لكن لدى أردوغان تصميمات أخرى لبلده ومدينته. حيث سعى أردوغان، الزعيم السياسي الاكثر بقاء في تركيا، لتحدي مبادئ الجمهورية العلمانية في البلاد، وأكد بدلاً من ذلك على أولوية الهوية السنية-الإسلامية المرتبطة بالرؤية الإسلامية للإمبراطورية العثمانية كمؤسسة طائفية تم التعامل مع تراثها الديني-السياسي الكبير عبر إصلاحات علمانية متعاقبة.

صعود حزب الشعوب الديمقراطي والدفاع عن التعددية

شكلت أحداث ميدان تقسيم عام 2013 فرصة لصعود المطالبين بإحترام التعديدة والديمقراطية والأحزاب المعارضة، في المقابل سعى أردوغان منذ هذا الحين وخاصة بعد صيف 2016 إلى وصف المعارضة كلها بالإرهاب، لكن هذه الفترة شهدت صعود حزب الشعوب الديمقراطي وزعيمه صاحب الكاريزما السياسي الكردي صلاح الدين دميرتاش الذي تمكن من منافسة أردوغان قبل أن يقوم بسجنه.

قبل 6 سنوات وخلاف فصل صيف حار كالذي تعيشه تركيا حاليا، عندما قامت الحكومة بقمع عشرات من دعاة حماية البيئة الذين عارضوا هدم حديقة عامة، خرج الملايين إلى الشوارع للاحتجاج، أولاً في اسطنبول، وفي كل مدينة أخرى تقريبًا في جميع أنحاء البلاد، وشهد ميدان تقسيم إحتجاجات تجمع فيها المعارضين من كافة ألوان الطيف السياسي، لكن نظام أردوغان قمعهم بالغاز وخراطيم المياه والرصاص المطاطي و"ذبح" 11 مواطنا في هذه العملية القمعية، التي استهدف فيها قتل روح التعددية في إسطنبول.

وتابع التحليل: "لم تكن فقط بعض الحدائق الجذابة في ميدان بوسط المدينة هو الأمر المثير للجدل، بل روح المدينة التي تتميز بحرية التعبير عن التنوع والمعارضة. وتجمع المتظاهرون من كبار السن والشباب، من النشطاء المثليين جنسياً إلى "المسلمين المناهضين للرأسمالية"، في ميدان تقسيم في جو من الاحتفالات. وفي ذلك الصيف، أخضعهم نظام أردوغان بخراطيم المياه والغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي، وذبح 11 منهم في هذه العملية. وبالكاد تم التغاضي عن أي تعبير عن التنوع بعد ذلك. تم حظر أحد الاحتفالات السنوية للتنوع في المدينة، منذ عام 2015. وقد تفاقم الوضع بعد محاولة انقلاب فاشلة ضد أردوغان في عام 2016، حيث أصبحت المعارضة مرادفة للإرهاب."

لم يكن ظهور وصعود حزب الشعوب الديمقراطي بعيدا إلى حد كبير عن هذا الهجوم على إسطنبول والقيم التي تطمح المدينة إلى تمثيلها لقرون. الرؤساء المشاركون لهذا الحزب الذي تنتمي إليه أغلبية كردية، لكن بعد طرحه أفكار ما بعد القومية والتقدمية هم رجل وامرأة، وهو كردي وهي تركية. إنه يدعم الطبقة العاملة، التي أهملها أردوغان لفترة طويلة. كما أنه حزب يمثل الأقليات الأخرى في تركيا، بما في ذلك الأرمن والسريان والإيزيديين والعلويين. ظهر صلاح الدين دميرتاش، السياسي والقائد الشاب والكاريزمي لحزب الشعوب الديمقراطي، كنجم بعد فوزه بحوالي 10 بالمائة في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في آب/ أغسطس 2014، وفي غضون خمسة عشر شهراً قام حزبه بالسعي للبرلمان بحصوله على 13 بالمائة من الأصوات - وهي أعلى نسبة تأييد لأي حزب مؤيد للكرد. وتمكن المرشح الكردي من التحالف بصورة أكثر من أي وقت مضى، مع جزء كبير من الناخبين غير الكرد. لقد أهلك أردوغان هذا الحزب منذ ذلك الحين، ووصفه بأنه جبهة إرهابية وسجن الآلاف من أعضائه، بما في ذلك زعماؤه المشاركون، على مدى السنوات الثلاث الماضية.

المعركة مستمرة والكرد يدافعون مجددا عن التعددية

خلال هذه المحنة وقبل قرار إعادة الانتخابات والاطاحة بإمام أوغلو من منصبه الذي تولاه لأيام، استمرت وسائل الإعلام الموالية لأردوغان في تشويه سمعة حزب الشعوب الديمقراطي أيضا وزعيمه السابق صلاح الدين دميرتاش كإرهابيين. في الفترة التي سبقت انتخابات آذار/ مارس، دعا دميرتاش أنصاره للذهاب إلى صناديق الاقتراع والتصويت "ضد الفاشية"، مما أدى إلى ظهور نتائج الانتخابات لصالح إمام أوغلو. في 23 حزيران/ يونيو، يستعد الكرد إسطنبول للعب دورهم في الجمهورية التركية مرة أخرى.

"التعددية ليست عدونا"، هكذا كتب إمام أوغلو في مقال في 4 حزيران/ يونيو في "الواشنطن بوست"، قائلا: "يجب أن نحتضنها، ونتحرك بالقوة التي يجلبها التنوع". وتابع تحليل مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات: "هذا هو كفاح الإمام أوغلو، وملايين من سكان إسطنبول الذين يخشون على مدينتهم، وجمهوريتهم، أن يقعوا في حكم استبدادي هم مصممين على رفضه. ومع وجود أكثر من 80،000 متطوع مسجلين بالفعل لمراقبة بطاقات الاقتراع ضد تزوير الانتخابات أو المخالفات في 23 حزيران/ يونيو، فإن المعركة مستمرة".