يُعد قصف مدينة "الحسكة" تبدل غير متوقع في الموقف العسكري والسياسي داخل المناطق السورية، خاصة مع التدخل الأمريكي الصارم لوقف المواجهات بين القوات السورية والأكراد، بالإضافة إلى ما اعقب قصف الحسكة من تبدل غير متوقع للموقف "التركي" والذي كان مصرًا على رحيل الأسد عن سوريا حتى وقت قريب، وكأن الجميع أكتشف فجأة وجود عدو أعتبره النظام السوري أشد خطورة من داعش، بينما رأى النظام التركي أن التحالف مع خصمه بشار الأسد صار حتميًا ووصل الأمر إلى تصريح رئيس الوزراء التركي "علي يلدريم" بأن دمشق بدأت تدرك خطر الأكراد وحزب العمال الكردستاني، وهو ما أعتبره بعض المحللون بداية لإقامة حلف روسي إيراني ـ تركي ـ سوري ـ حزب الله، بعدما أثبت الكرد أن الجماعات المتشددة ومن بينها "داعش" ومن يدعمهم لا يشكلون خطراً حقيقياً على الدولة السورية.
البداية
شهدت سماء الحسكة في 18 أغسطس/ آب الجاري تحليقاً مكثفاً لثلاث طائرات حربية تابعة للنظام، وأكدت مصادر كردية وأخرى من داخل النظام، أن الطائرات استهدفت مواقع تسيطر عليها القوات الكردية في القسمين الشمالي الغربي والشرقي من مدينة الحسكة، بالتزامن مع استهداف طيران النظام السوري لمناطق سيطرة القوات الكردية بمدينة الحسكة، بعدة قذائف مدفعية وقذائف هاون، وقالت المصادر إن القصف استهدف حي العزيزية في أقصى شمال الحسكة، وتسبب بسقوط عدد من القتلى والجرحى، وارتفعت حصيلة قتلى المعارك والاشتباكات والقصف الجوي والمدفعي على المدينة إلى 22 قتيلا و32 جريحا خلال 3 أيام، بحسب المصادر.
ومع احتدام القتال قال متحدث باسم وحدات حماية الشعب الكردية السورية إن السلطات الكردية أجلت يوم الجمعة آلاف المدنيين من المناطق الكردية في الحسكة.
وأضاف ريدور خليل خلال تصريحات أدلى بها لـ"رويترز"، إن عشرات المدنيين قتلوا خلال الثماني والأربعين ساعة الماضية، ووصف المعركة بأنها الأشرس بين الوحدات الكردية والحكومة السورية منذ بداية الحرب قبل خمس سنوات وأضاف "الحسكة تشهد حربا حقيقية الآن"، مشيرًا إل إن معظم الذين تم إجلاؤهم من النساء والأطفال. وأضاف "كل من يستطيع حمل السلاح يقاتل النظام وعصاباته" واستطرد "موقفنا حتى الآن دفاعي لكنه سيتغير كليا إذا استمر النظام في التصعيد بهذا الشكل".
بيان الجيش السوري
أصدر الجيش السوري بيانًا ادعى أنها السبب وراء قصف الحسكة نشرته وكالة الأنباء السورية "سانا"، مساء الجمعة، أشار فيه إلى إن القتال في الحسكة بين قواته ومسلحين أكراد جاء نتيجة محاولة قوات الأمن الكردية السيطرة على المدينة وتطويقها وقصف مواقعه.
وأضاف البيان أن "الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني صعّد في الآونة الأخيرة من أعماله الاستفزازية في مدينة الحسكة، كالاعتداء على مؤسسات الدولة وسرقة النفط والأقطان وتعطيل الامتحانات، وارتكاب أعمال الخطف بحق المواطنين الآمنين وإشاعة حالة من الفوضى وعدم الاستقرار".
وأضاف الجيش السوري إن محاولات احتواء الموقف عدة مرات باءت بالفشل مما استدعى "ردا مناسبا من قبل الجيش العربي السوري باستهداف مصادر إطلاق النيران وتجمعات العناصر المسلحة المسؤولة عن هذه الأعمال الإجرامية".
الموقف الأمريكي "ما يحدث غير عادي"
لم يكن بيان الجيش السوري مقنعًا لتبرير الموقف خاصة مع تواجد عسكريين تابعين للبنتاجون والإدارة الأمريكية داخل المنطقة ومع تجدد القصف لليوم التالي أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية الجمعة 19 أغسطس/آب أنها أرسلت مقاتلات لحماية مستشاريها العاملين مع القوات الكردية بعد أن قصفت طائرات سورية مواقع في الحسكة.
وأوضح المتحدث باسم البنتاغون الكابتن جيف ديفيس أن مقاتلتين سوريتين شنتا غارات على القوات الكردية التي يدربها مستشارون أمريكيون في المنطقة المحيطة بمدينة الحسكة شمال شرق سوريا.
وذكر المتحدث أن البنتاغون، أرسل مقاتلاته إلى المنطقة، لكن الطائرات السورية كانت غادرت المنطقة قبل وصول المقاتلات الأمريكية، قائلاً: "إرسال المقاتلات يأتي كإجراء لحماية قوات التحالف"..."سنضمن سلامتهم (قواتنا)، وعلى النظام السوري عدم القيام بأمور تعرضهم للخطر، وننظر بجدية بالغة للحوادث التي تعرض التحالف للخطر، ولدينا الحق الثابت في الدفاع عن أنفسنا"... "هذا أمر غير عادي مطلقا، لم نشاهد النظام السوري يقوم بمثل هذا ضد وحدات حماية الشعب الكردية"، المدعومة من الولايات المتحدة.
ووصل الأمر بحسب موقع "سي إن إن" إلى تصريح أحد القيادات العسكرية الأمريكية بقوله: "إذا قام السوريون بذلك مجدداً فسيكونون في مواجهة خطر فقدان طائرة".
ما وراء قصف الحسكة
أتى قصف الحسكة بالتزامن ربما للمرة الأولى مع الاتفاق التركي السوري الذي تضمن موافقة تركيا على بقاء الرئيس السوري بشار الأسد في السلطة وهو ما يثير العديد من التساؤلات خاصة مع التصريحات التي أدلى بها رئيس الوزراء بن علي يلدريم والتي قال خلالها إن: دمشق بدأت تدرك خطر الأكراد مؤكدا أن بلاده ستضطلع بدور أكثر فعالية في التعامل مع الأزمة السورية حتى لا تنقسم البلاد.
وأوضح يلدريم في تصريحاته إلى أن تطلع الأكراد إلى وصل المناطق التي يسيطرون عليها في الجانب الآخر من الحدود التركية «إنه وضع جديد» ومن الواضح أن النظام السوري فهم أن البنية التي يحاول الأكراد تشكيلها في شمال سوريا بدأت تشكل تهديدا لدمشق أيضا وأشار إلى أن بلاده ستتمكن بالتعاون مع روسيا وإيران وغيرهما من الدول المعنية من إيجاد حل للأزمة السورية خلال الستة أشهر القادمة.
ويبدو أن تركيا تخشى بشدة من أن يؤدي اكتساب الجماعات الكردية في سوريا لمزيد من القوة إلى تشجيع حركة التمرد الكردية في تركيا التي استأنفت نشاطها بعد انهيار وقف لإطلاق النار الذي بين المسلحين والحكومة العام الماضي.
ولم يتوقف الأمر على التقارب التركي السوري الذي يؤكد المحاولات الرامية إلى تكوين جبهة قوية ضد الحلم الكردي الباحث عن حقوقه التاريخية خاصة مع الزيارة غير الرسمية التي قام بها وزير الخارجية التركي "مولود جاويش أوغلو" إلى إيران والتي أعلنت عنها وكالة الأنباء الإيرانية فور انتهائها بالإضافة إلى الزيارة المرتقبة التي سيقوم بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى إيران وهو ما يشير إلى تفاهمات جديدة.
نستطيع أن نستنتج أن القوة الواضحة التي ظهرت عليها القوات الكردية بالإضافة إلى التفاهمات التي أظهرتها مع جميع المكونات العرقية في سوريا وأدت إلى هزيمة غير تقليدية للمتشددين الإسلاميين نتج عنها إعادة فتح جبهات العداء التاريخية ضد الحقوق الكردية، إلا أن الوضع على الأرض غير قابل للاستنتاج خاصة وأن كل ما يدور سواء على المستوى السياسي والعسكري يدعم الحقوق التاريخية للمكون الكردي.