الكاتب والباحث السياسي أحمد شيخو: المشهد والحلول بين السلطوية-الدولتية والديمقراطية-المجتمعية

تحدث الباحث والسياسي أحمد شيخو في مقال له عن أهمية فهم وتدارك الفرق في حل الأزمات والقضايا الاجتماعية العالقة من قبل قوى المجتمع وحركاتها الحرة والديمقراطية بين ‏الحلول السلطوية-الدولتية من جهة وبين الحلول المجتمعية-الديمقراطية من جهة أخرى.

ومع حالة العقم والانسداد الذي نعيشه في منطقتنا وخاصة في الشرق الأوسط حالياً، في ظل الحروب والأزمات نتيجة فرض البنى الفكرية والمادية وحالة التقسيمات و ملامح ومرتكزات النظام الإقليمي والعالمي المرافق الذي تشكل بعد الحربين العالميتين، علاوة على السكون والجمود الفلسفي والفكري والسياسي وحالة الاغتراب عن الماهية الذاتية للمنطقة وشعوبها وثقافتها، يمكننا القول أن تماسس الاحتكار والعنف والنهب إلى جانب تماسس وتكاثف الألوهية و الدينية والميتافيزيقية بشكل عام في وضعية مادية بصيغة نظم سلطوية-دولتية لإدارة المجتمعات والحياة والأمم لنهب قيمها، جعلت حالة الدوران في نفس الحلقة هي السائدة و التي تتجدد وتضخ دماء جديدة في هذه البنى الفوقية المتحكمة التي وعبر هيمنتها الفكرية والأيديولوجية والاقتصادية والأمنية والوسائل المختلفة في رصف الأرضيات السياسية والأيدولوجية والمادية تكون قادرة على هزيمة قوى الثورات والتغيير المختلفة المطالبة بالحلول الديمقراطية وانتصار الثورات المضادة التي تعني تجديد وانتصار للقوى الدولتية والسلطوية وتحقيق استمراريتها نتيجة تطبيق الحلول السلطوية-الدولتية بدل الحلول الديمقراطية-المجتمعية أو أن قوى التغيير الديمقراطية تأخذ مكان القوى السلطوية وتقلدها فعلاً وفكراً بعد الانتصار وتكون النتيجة لا جديد سوى تبديل بعض الأماكن والوجوه واستمرار الأزمات بنجو أشد.

من الأهمية فهم وتدارك الفرق في حل الأزمات والقضايا الاجتماعية العالقة من قبل قوى المجتمع وحركاتها الحرة والديمقراطية بين الحلول السلطوية-الدولتية من جهة وبين الحلول المجتمعية-الديمقراطية من جهة ثانية، حيث أن المقاربتين مختلفة جذرياً من حيث:

1-   الذهنية والمنظومة الفكرية والفلسفية.

2-   منهجية الحل والأدوات والوسائل المتبعة.

3-   الأطراف والقوى المشاركة.

4-   المرتكزات وتبلور الهياكل العينية للحل من الأطر القانونية إلى الأمنية والسياسية والاقتصادية.

5-   الغاية والهدف.

 ولو رصدنا بعض من أداء التفاعل الدولتي-السلطوي في مواجهتها لقضايا المنطقة العالقة، سنلاحظ بسهولة وقوعها تحت الهيمنة الأيدولوجية والفكر الاستشراقي أو أنها أحد أدواتها واغترابها عن قيم وثقافة المنطقة بمجتمعاتها وشعوبها المختلفة و المتنوعة وبذلك عدم الاقتراب من جذور القضايا ومنابعها الرئيسية أو التستر عليها وعدم الخوض فيها، وكذلك نجد حالة العنف المفرط والإكراه الشديد والفرض بالقوة و السلوكية الأحادية وغياب ثقافة الحوار مع الأخر المختلف سواء فكرياً أو سياسياً أو قومياً أو دينياً أو مذهبياً، وغياب القوى والأطراف المجتمعية الأساسية في القضايا المراد تداولها وعدم وجود تمثيل حقيقي أو عدم السماح لأصحاب القضايا بالتواجد في محافل التداول والنقاش الدولتية والبحث عن الحلول، وفي غالب الأوقات تكون المقاربة الأمنية نتيجة ضعف وعقم الذهنية والمخزون التفكري، ولا شك في هذه الحالة لن تكون الغاية والهدف هو إيجاد الحلول الديمقراطية و خدمة الشعوب والمجتمعات وحل القضايا العالقة، بل ستكون تعميق القضايا والأزمات وفرض مزيد من الاحتكار والسلطوية لتحقيق الهيمنة والنهب والاستغلال واستمرار الفوضى أو الشكل والصيغة المحققة لذلك.

إن جيو ثقافية الشرق الأوسط والمنطقة وشعوبها بشكل عام هي على تناقض كبير مع تقسيمات وسياسات نظام الهيمنة العالمي الرأسمالي وأدواتها الدول القومية وحلولها السلطوية-الدولتية، وللمنطقة طاقة بشرية وطبيعية وثقافية ومجتمعية كبيرة تمد ميول الكلياتية والتعاون والتحالفات والديمقراطية والحلول المجتمعية-الديمقراطية بمزيد من القوة والقدرات الهائلة، رغم حالة الضعف والتشرذم والتقسيم والمخاوف المفتعلة وإضعاف أنسجة المجتمع الديمقراطية التي تم من خلال منطق سياسية فرق-تَسُد و جوع-تَعُبد عبر الدول القومية والتقسيمات والأنظمة والتيارات القومية والإسلاموية والجنسوية التي تم فرضها على شعوب ومجتمعات المنطقة وتكويناتها المختلفة وخصوصياتها المتعددة مع وجودة أزمات بالأصل في المنطقة قادمة من نشوء المدنيات والحضارات المركزية التي مثلت في جزء كبير منها انحراف وتعدي على البنى المجتمعية ومحاولة ترويضها  والاعتداء على الحضارات الديمقراطية المرافقة لها و على عصور المرأة الأم-الآلهة وقيمها العادلة والحقة.

ما يكمن في أساس ما يسمى الحلول السلطوية-الدولتية، هو الصراع بين الاحتكارات على السلطة والاقتصاد وأدواتها وأجهزتها وعلاقات الإنتاج والهيمنة. هذه الميول التي تبلورت بشكل في سياقي ظهور ونضوج المدنية وفي التاريخ، وتنعكس في عصرنا عصر الرأسمالية العالمية بشكلٍ قصير الفواصل البينية، شديد الكثافة، سريع الوتيرة ودمويٍّ وعنيف جداً ويعرض المجتمعات والشعوب لحالات إبادة جماعية وتهجير وانصهار وذوبان من منظورها لحلول تخدمها واستغلالها دون الأخرين وتحقق استمراريتها واحتكاراتها.

ولو نظرنا بتمعن للمنطقة وحالة الحروب والصراعات والفوضى التي تعصف بدولها القوموية  والإسلاموية المصطنعة بغالبيتها في القرنين الأخيرين يمكننا ملاحظة عقم و انسداد الحلول السلطوية-الدولتية وتخبطها في مزيد من الفوضى والقتل وحالات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتغير الديموغرافي وتركيزهم لخلق المواطن-القطيع أو العبد الحديث صاحب الأنانية والفردية المتضخمة دون تحقيق توازن مستقر بين حرية الأشخاص وحرية المجتمعات، كحالة مساعدة مناسبة للهيمنة العالمية على المنطقة للتحكم بها ونهبها و شرعنة أدواتها ومشاريعها كيفما تشاء بداً من الفرد المتجانس النمطي القطيعي.

لنحاول التركيز في بعض التناقضات والصراعات والثنائيات المتقاتلة في منطقتنا لنعرف وندرك ماهية الحلول السلطوية-الدولتية وبوصلتها البعيدة عن الاستقرار والسلام الحقيقي ولندرك أهمية الحلول الديمقراطية-المجتمعية لقضايا المنطقة:

1- الصراع أو التناقضات العربية-الإسرائيلية:

هذا الصراع أو التناقض تم إيجاده من قبل نظام الهيمنة العالمية لخدمة مصالحها، ولا يمكن تحقيق السلام والتوافق بين الإسلام واليهودية، ما لم يتمّ التخلص من وقوعها في كنف وساحة السلطة والدولة. فما داما الطرفين يصرّان على أن يبقيان قوة للسلطة والدولة، فليس بإمكانهم التواجد والعيش معاً، إلا بإنهاء وتصفية بعضهما البعض، مثلما كانتا تاريخياً وحتى اليوم. وهكذا تبنى تواريخ وبنى السلطة والهيمنة. وقد استمرّت حداثة النظام العالمي الرأسمالي بهذا السياق بجعله أكثر حدّة وتصلّباً وعقماً. إذ يطلق اسم الحلّ على إنهاء البعض والسحق تحت رسوخ مرتكزات نظام الهيمنة العالمية من الرأسمالية، الدولة القومية، والصناعوية، أو يجسد الحل في أحسن الأحوال حسب السلطوية-الدولتية بإخضاع طرف لأخر وهيمنته كما يحصل مع "اتفاقيات آبرهام" دون اعتبار لإرادة ومصالح الآخر.

هذه القضية، التي تؤثّر على المنطقة سلباً وتمهّد السبيل أمام مخاضاتٍ أليمةٍ وخسائر جسيمةٍ منذ أكثر من سبعين عاماً، لا مهرب من استمرارها بإحداث نتائج وتداعياتٍ أكثر فساداً وقلقاً، حصيلة المواقف السائدة حالياً أو الحلول السلطوية-الدولتية.

وهذا المثال العربي-الإسرائيلي ربما قادرٍ على عرض التسويف والوجه الدمويّ الحقيقيّ للحلول السلطوية– الدولتية وفشلها والحالة الإنكارية والمعادلة الصفرية التي تبحث عنها. والملفت هو أنّ اليهود عانوا من الإبادة العرقية على يد قوى الحداثة الرأسمالية للنظام العالمي، الذين لعبوا دوراً مؤثراً وكبيراً في إنشائها. فالسلطوية-الدولتية هكذا تأكل آبائها وتبيد أبنائها وتخضع البعض للأخر دون وجه حق لتحقيق المصالح بكافة أنواعها.

2- الابادات أو التناقضات التركية مع الكرد وشعوب المنطقة:

 هذه التناقضات تنبع أساساً من مشاريع الهيمنة العالمية على المنطقة وأدواتهم الإقليمية والمحلية. فعلى الرغم من امتداد جذورها إلى القدم، إلا أنّ المنطقة أصبحت مسرحاً لإباداتٍ جماعيةٍ أثنيةٍ وقوميةٍ ودينية لا حصر لها، وبما لم تشهد له مثيلا في تاريخ بلاد الأناضول ومزوبوتاميا العليا(كردستان)، تزامنا مع انتشار مرتكزات الهيمنة العالمية وتوسّعها فيها. هذه المجتمعات والشعوب والثقافات والأمم، التي تعدّ بأحد معانيها قوة خالقة وإنشائية أساسية لنظام المدنية المركزية والحضارات المختلفة، قد جعلت بعض الطبقات الفوقية السلطوية فيها تكنّ العداء الشديد لبعضها البعض مع حلول القرنين الأخيرين من تاريخ حداثة النظام العالمي الرأسمالي، معرّضة بذلك لإباداتٍ متبادلة. فبينما تم القضاء على التراكمات والخبرات الثقافية والموروث المستمر منذ آلاف السنين، فإنّ بعض الشعوب اقتلعت ومسحت من جغرافية المنطقة، وبعضها الآخر أبيدت. أما الباقون، فتمّ تحويلهم إلى قبائل توابع ومشردين ولواحق ومجموعات بوادي وجبال أو أتراكهم الذين ضيعوا عقولهم فترة من الزمن.

من الواضح أنّ القوة الموجدة والمحركة لهذه التناقضات كانت تلك القوى القومية المهيمنة للحداثة العالمية التي برهنت جدارتها بسياسة "فرّق– تسد" وجوع-تَعُبد الممتدة على طول خمسة قرونٍ بحالها. إذ لم تتوان تلك القوى عن حثّ هذه الشعوب الضاربة بجذورها في أغوار التاريخ السحيقة على قتل بعضها بعضا، إكراماً لمصالحها المرحلية في المنطقة. أي أنّ جميع هذه الشعوب التي حاربت بعضها بعضاً ظاهرياً، إنما كانت ضحايا سلطة واستغلال الرأسمالية الاحتكارية مضموناً وجوهراً. ولكم مؤلم أنّ هذه الشعوب عندما كانت تصارع تحارب بعضها بعضاً، لم تكن تدرك أنها تخدم من ولماذا. حتى هذه الابادات المتحققة ضمن إطار هذا التناقض، كافية بمفردها لإثبات كون الحداثة والحلول السلطوية-الدولتية هي الأكثر دموية من بين جميع نظم المدنية في التاريخ.

وهكذا، فالأماكن التي كانت ميدان أو حديقة الشعوب فترات طويلة في عموم الشرق الأوسط، قد اصبحت اليوم مقبرة شعوب. كما حصل في الدولة التركية الحالية التي قبلتها وشرعتنها القوى العالمية بعد انهيار العثمانية. وإن كان هناك أحد يريد التكلم باسم الشعوب وثقافاتها، ويريد أن يلبي متطلبات مسؤوليات التنور الحقيقيّ والتعايش المشترك والتكامل والتنمية، أو عن الحلول الديمقراطية-المجتمعية، فينبغي تسليط الضوء على المسؤولين الحقيقيين عن مقبرة تلك الشعوب والثقافات، ومحاسبتهم على ذلك من قوى الهيمنة العالمية ومقارباتهم وحلولهم وأدواتهم السلطوية-الدولتية من القوموية والإسلاموية والجنسوية.

3- الثنائية المتحاربة أو التناقضات الشيعية-السنية:

صراعات وحروب هذين المذهبين في راهننا مرتبطة بمصالح النظام العالمي والحلول السلطوية-الدولتية والتواجد كأدوات للدولة والسلطة على الرغم من امتداد جذور الأزمة إلى فجر انطلاقة المدنية الإسلامية أو الإسلام السلطويّ-الدولتي. ولا يمكن صياغة رؤية وقراءة سليمة للصراع الإيرانيّ– العربي وخاصة الخليجي-العربي وكما الصراع والحرب الذي استمر ثمانية السنوات بين العراق وإيران، والتدخلات الإيرانية في الدول العربية وأذرعها والحروب المذهبية المتصاعدة بشكل متزايد مع انهيار الاتحاد السوفيتي في التسعينات إلا ضمن شكل الدولة القومية وارتباطاً بالمشاريع العالمية للهيمنة على المنطقة والعالم وإضعاف قيمها الاجتماعية. علما أنّه من اليسير تحليل التناقضات والصراعات بين الديانتين الإسلامية والموسوية من جهة، وبين الديانتين الإسلامية والمسيحية من جهةٍ ثانية، بل وحتى بين الديانتين المسيحية واليهودية أيضا ارتباطاً بالحداثة البدائية. ذلك أنّ دوافع وأشكال صراع الأديان لما قبل نظام حداثة النظام العالمي الرأسمالي قد انعكست على العصور الحالية من الحداثة الرأسمالية كما هي وبمظهرٍ وضعيّ مقيت. هذا ويمكن تقييم الأديان التوحيدية الثلاثة ذات المشارب الشرق أوسطية بشكلٍ خاصٍّ على أنها قوموية تمهيدية مسبقة. فالفارق الذي يميّز هذه الأديان عن قومويات الحداثة والهيمنة، هو أنها متقنّعة بالقناع الثيولوجيّ إلا أن الأهداف السلطوية-الدولتية هي نفسها التي تكون في غير صالح المجتمعات والشعوب بعيداً عن رسالة الأديان الاساسية الأخلاقية والمراحل الأولية لانتشارها وقبولها من قبل المجتمعات والشعوب المختلفة.

ونستطيع الإشارة إلى حضور الأشكال الدينية أساساً في بنية التوصيفات الوضعية لعهد الهيمنة والحداثة الرأسمالية. وبعكس ما يزعم، ليس هناك فرق جوهريّ وكبير بين الدّنيوية والأخرويّة المصطنعتين وفق الحلول السلطوية-الدولتية، فدين السلطة والدولة، وسرود الحداثة المهيمنة المتحولة إلى عبارة الدولة القومية، كلاهما يخدمان المصالح الاحتكارية عينها. فالحروب المذهبية في أوروبا والشرق الأوسط ودول المنطقة تنبع في راهننا من الهيمنة والمدنية والحداثة ومنهية مقاربتها وأهدافها وأدواتهما وتوابعهم الإقليميين والمحليين، مثلما الحال تاريخياً، ويتمّ الاستمرار بها تأسيساً على المصالح نفسها، دون أن تفقد شيئا من تدفقها وسيرورتها. أي أنّ تيارات الإسلام السلطوية والموسوية والمسيحية قد اتّحدت مع شتى أنواع القوموية لخدمة مرتكزات الهيمنة ومشاريع الاحتكار والاستغلال والنهب للقوى المحورية في نظام القطبين ثم في نظام القطب الواحد.

إن تجّار المدنية والمرابين والسلطوييون-الدولتيون ووجوههم الدموية التي تنهش و تقرض الثقافات الغنية لشعوب الشرق الأوسط طيلة آلاف السنين، إنما هم اليوم في خدمة أسيادهم الجدد من المهيمنين العالميين و أنظمتهم وحداثتهم الرأسمالية، يستهلكون ما تبقّى من موروثات و تراكماتٍ وثقافات وقيم أخلاقية وإنسانية في حوزة اليد بلا رحمةٍ أو شفقة، بلا حسابٍ أو كتاب، بل وبعيونٍ تماسيح باكية ودامية؛ محوّلين بذلك المنطقة إلى خراب، والبيئة إلى صحراء، والأنهار إلى وديان فارغة والجبال إلى أماكن مهجورةٍ موحشة مقطوعة أشجارها والمرأة إلى سلعة للبيع وممارسة السلطة للذي ليس له سلطة واعتبار خارج البيت.

1- أدوات الاحتكارية العالمية وتناقضاتها (الدّويلات القومية): إنّ الرأسمالية الاحتكارية العالمية قد وجّهت أكبر ضربةٍ إلى الإنسانية حول العالم وخاصة في منطقتنا من خلال إيجادها نموذج الدولة القومية كأحد الحلول السلطوية-الدولتية. يتبين هذا التقييم ويتأكد صحته بوضوح على شعوب وأمم الشرق الأوسط، من خلال الحروب اليومية الناشبة في كلّ بقاع ودول المنطقة تقريباً. إذ ما من دولةٍ قوميةٍ إلا وهي في حالة حربٍ مع محيطها و الدول الأخرى ومع شعوبها ومجتمعاتها والخصوصيات المختلفة الموجودة داخلها.

·الدول القومية العربية: وما يشغل ويستهلك الأمة العربية الكبرى وثقافتها أكثر من إسرائيل، هو حسابات الدّويلات القومية الاثنتين والعشرين على السلطة، وتكاليفها ومصاريف السلطات وبيروقراطيتها فيها وتلبية مطالب أسيادها من القوى المحورية في الهيمنة والرأسمالية العالمية. فبينما تتخبط شعوبها في الاحتلال والذلّ والهوان والفقر والهجرة والمجاعات، لا تتوانى هذه السلطات عن عرض شتى أنواع الأبّهة والجلال التي لا تصلها حتى النماردة والفراعنة السابقين. أما ما يمدّها بهذه القوة والنفوذ، فهو دويلاتهم القومية التي تعدّ إلهاً علمانياً جديداً. بينما امتثالهم لآلهتهم القديمة وأديانهم وشعوبهم زائف ومحض كلام ونفاق. حيث بنيت وطوّرت الدول القومية العربية بناء على حسابات إمبراطورية إنكلتراً حينها للتحكم بطريق الهند، واستملاك الموارد النفطية، وبسط الرقابة على الإمبراطورية العثمانية المريضة والساقطة بحكم ضعفها. أما تظاهر هذه الدول بالقوموية رغم أنّ هذه هي الحقيقة، فهو من ضرورات تقنية سلطة الاحتكار والهيمنة والحداثة. أي أنّ الدول القومية المذكورة وغيرها هي المؤسسات العملية الأساسية للهيمنة الرأسمالية العالمية. وهذا الواقع واضح بشكل كبير في الدّويلات القومية العربية.

·الدولة القومية الفارسية: ويمكننا رؤية اللعبة نفسها في تكوين الدولة القومية الفارسية أي وبنحوٍ مفيدٍ ومليءٍ بالعبر والدروس. فالمهارة التي اكتسبها الفرس في فنّ السلطة منذ عهد المدنية البرسية، قد طوّروها أكثر فأكثر في عهد الرأسمالية وحداثتها تأسيساً على التواطؤ والعمالة. وهم والتداخل مع تضليلات المدنية والحداثة قدموا "الشيعة القومية"، وهنا فإنّ الإيرانيين الحداثويين كانوا نابغين لدرجة عدم الخجل من عرض وثن الدولة القومية (التي هي منتوج الرأسمالية) على أنه روحانية عظيمة باسم "الجمهورية الإسلامية". وفي هذا ربما تفوقوا أو تنافسوا مع النظام الصين الذي قام بطلاء أكثر أشكال الرأسمالية وحشية وعرضها على أنها "الشيوعية".  وعليه، فإيران بوضعها الراهن الملموس تشكّل أضعف نقاط النظام العالميّ والمنطقة الرخوة منه، فترجح بذلك كفة احتمال عرقنتها وسورينتها وصوملتها فبالرغم من تمثيلها الفاشية المؤسساتية مثلما حال الدول القومية الأخرى في المنطقة، إلا أنها تطيل عمرها بالاستفادة من نقاط ضعف هيمنة أمريكا والاتحاد الأوروبيّ. أي أنّ إيران كغيرها من الدول القومية تتخبط بين مخالب الأزمة والقضايا العالقة، وهي مشحونة زيادة عن الحدّ بطاقةٍ كامنةٍ قادرةٍ على التّمخّض عن وضعٍ فوضوي شبيهٍ بما عليه العراق وسوريا وليبيا واليمن.

·الدولة القومية التركية: أما الدول القومية التركياتية، فقد حظيت بوجودها تحت ظلّ الخطر والهيمنة الروسية إلى جانب حماية حلف الناتو بريادة أمريكا. فهي موضوع خلافٍ وسجال وجدل. ذلك أنّ صمودها متماسكة من دون دور وظيفي وهيمنةٍ أمر عصيب، رغم تظاهرها كثيراً بالقوموية. حيث أنها تنتهل نصيبها زيادة عن الحدّ من الأزمة الإقليمية والعالمية، رغم أن أهميتها ليست كما السابق مع انهيار السوفييت واتفاقيات ابرهام الأخيرة ودور الكرد في محاربة داعش وتقديم مشروع الأمة الديمقراطية، وتمتلك تركيا بذلك طاقة كامنة من الفوضى والتشرذم والتفتت. والمجريات المعاشة على المحور السوري والأفغانيّ والعراقيّ والليبي واليمني والصومالي والتونسي والأزمة الأوكرانية وغيرهم تعكس بجلاء العاقبة المحتملة للدول القومية الإقليمية إن لم يحصل فيها تحول ديمقراطي وتغيير بنيوي وحلول ديمقراطية-مجتمعية للأزمات وللقضايا العالقة.

إن واقع السلطة والدولة في الشرق الأوسط والحلول أو اللا حلول السلطوية-الدولتية يفسح المجال أمام انتهاء الأزمات الإقليمية إلى الحروب المتكررة مراراً والتداعيات السلبية على مجتمعات وشعوب المنطقة، أكثر مما يؤدي إلى صياغة الحلّ للقضايا الاجتماعية ثقيلة الوطأة؛ وذلك نظرا لكونه يحتلّ مكانه في منبع القضايا. أما الحروب، فتعظّم من حجم الأزمة وتنشر أوضاع الفوضى أكثر فأكثر.

وهكذا، فإن الأمثلة السابقة قادرة وبشكل كبير على كشف النقاب عن ماهية الحلّ السلطوي-الدولتي، أو بالأحرى اللاحلّ النهائيّ للهيمنة العالمية ولحداثتها الرأسمالية، بقدر ما هي عليه هذه الابادات العرقية المدبّرة مسبقاً وحالات تغيير التركيبة السكانية لخلق النمطية والتجانس القسري والقطعنة البشرية اللازمة دوماً لبناء أمة الدولة القومية ولاستمرار في مصالحها.

الحل الديمقراطي-المجتمعي:

ويمكن القول تأسيساً على ما ذكر فإن الحل الديمقراطي-المجتمعي يكون عبر عدة نقاط ومرتكزات منها:

1- بناء الذهنية والإرادة التشاركية الحرة الديمقراطية بين المجتمعات والشعوب والتكوينات المختلفة في المنطقة.

2- ابعاد المجتمعات والشعوب عن الحلول السلطوية-الدولتية بأنواعها القوموية الضيقة المتشددة الفاشية والإسلاموية الإرهابية والجنسوية الأبوية الذكورية والقائمة على:

·النمطية والتجانس القسري واللون الواحد والوصف العرقي والقومي للمناطق المختلطة والدول ذات الشعوب المختلفة.

·الدين والمذهب الواحد أمام التنوع والتعدد الغني للروحانيات والثقافات الدينية في الشرق الأوسط.

·الذكورية الفظة التي تمثل عبودية الرجل للدولة والسلطة والذي ليس له حول ولا قوة سوى أن يمارس دوره السلطة الذكورية على المرأة ليعكس عبوديته للدولة على المرأة سواء أخته أو زوجته أو أمه أو. .

3- انشاء التحديث الديمقراطي للمجتمعات والتركيب الديمقراطي لأمة ما وراء الدولة القومية أي الأمة الديمقراطية التي تحقق الأخوة بين الشعوب والتعايش المشترك والاعتراف المتبادل.

4- تجديد الخطاب الديني والقيام بإصلاح حقيقي ودمقرطة الإسلام وانقاذه من الاستغلال الفاتح الغازي والسلطوي الدموي والإرهابي لإسلام السلطنة والخلافة واستحداثه كأمة عابرة للدولة القومية وديمقراطية مفعمة بالمساواة والحرية والكرامة والعدالة كما هي جوهرها وأخلاقيتها العالية.

5- دمج تاريخ المنطقة وثقافتها الذاتيتين وتقاليدها الديمقراطية مع القيم الاجتماعية والعلمية للعصرانية الديمقراطية وتحقيق الحقيقة الحيادية والمصيرية لحرية الوجود المجتمعي والمعبرة عن الحقيقة بكل صدق.

6- بناء المجتمع الأيكولوجي-الاقتصادي بريادة المرأة تجاه المجتمع التخريبي-الصناعوي بريادة الرجل والمجتمع الاخلاقي-السياسي تجاه الدولة القومية وأجهزتها وأدواتها السلطوية.

7- بناء الإنسان الديمقراطي الذي هو أساس كل بناء وعماده كنواة للمجتمع الديمقراطي، لتحقيق الديمقراطية والتكامل في المنطقة وفي بلدانها.

8-عدم اتخاذ الحلول السلطوية-الدولتية كدين علماني وكـأنه ليس هناك عالم آخر وحلول أخرى وعدم الرفض والتصدي الجذري وإنكارها بل امتلاك المقدرة على تواجد الاثنين معاً كالدولة والديمقراطية معاً ضمن أطر قانونية دستورية متفقة عليها، وبطبيعة الحال عندما تجد الميول الديمقراطية والحلول المجتمعية مساحتها في التعبير والتنظيم والعمل ستكون لها النصر وستكون في صالح الجميع مع الدنو إلى الحالة الديمقراطية المستقرة والسلام الحقيقي.

9- تكامل ووحدة كفاح الفكر-القول-العمل الدؤوب وعدم الفصل بينهم والاستمرار والمثابرة عليه.

10-عدم الإذعان والانصار والتسليم والذوبان وكذلك عدم الرفض الجذري والمطلق للحلول السلطوية-الدولتية فكل الموقفين يعزز حضور الحلول السلطوية الدولتية بالنهاية، إنما يمكن وعبر التوافق وتأمين المساحات المناسبة للطرفين بالعمل والنشاط والتواجد وضمان الحلول المجتمعية-السلطوية إلى جانب الحلول السلطوية-الدولتية عبر الدساتير الديمقراطية والأطر القانونية والحقوقية اللازمة من مبدأ (الديمقراطية الدولة) أو (المجتمع الدولة) أو (السلطوية الديمقراطية).