علماء يُنتجون خبزاً من خميرة فرعونية عمرها خمسة آلاف عام 

لا زالت حياة الفراعنة المصريون تشغل اهتمام العلماء في مجالات عدة محاولين تقفي أثر هذه الحضارة التي لا تزال طلاسم أسرارها موصدة على كثير من الخفايا.

كثيرة هي الخفايا التي تحيط بالحضارة المصرية القديمة والتي وصلت إلى كثير من الإنجازات التي اعتبرت من معجزات العالم التي لم يتم حل رموزها حتى الآن، فحتى تلك اللحظة تقف أهرامات مصر تعانق السماء في شموخ غير عادي لم يصل العلماء إلى حقيقتها وبرغم كل صور التطور الراهنة وناطحات السحاب التي شُيدت لكن تبقى الأهرامات والمسلات المصرية القديمة وغيرها علامات فارقة في تاريخ البشرية.

وبصورة يومية تخرج اكتشافات جديدة تظهر مع الاكتشافات الأثرية شبه الدائمة والتي تعلن عنها وزارة الآثار المصرية بصورة دائمة وكان آخرها في أبريل الماضي عندما تم الكشف عن أقراص خبز عمرها آلاف السنوات وُجدت بأحد المقابر ولم تفسد.


ورغم أنها لم تكن المرة الأولى التي يتم الكشف فيها عن الخبز، فالخبز ومواد غذائية أخرى كالجُبن سبق أن تم اكتشافها في المقابر الفرعونية، وذلك لاعتقاد المصري القديم بالحياة بعد الموت ومن ثم فإنه كان يعد مقبرته للحياة الأخرى التى تعتبر هي حياته الأبدية.
ولأن الخبز أحد المكونات الهامة للحياة فمن العادي أن تجد في المقبرة خُبزاً جاهزاً وكذلك مكونات الخبز الأساسية كالحبوب والطحين، وحتى الخميرة التي توضع ليصل الخبز عبرها لعملية التخمير التي تسهم في خروجه بصورة مميزة.
إذا فإن المصري القديم اكتشف مبكراً كل السبل التي تؤدي إلى صناعة جيدة للخبز بما فيها فطر  الخميرة (الفرعوني) الذي نال اهتمام كبير من الباحثين، الذين قضوا وقتاً طويلاً لاستخراجه واستخدامه في صناعة الخبز في حالة تثبت درجة الهوس الكبير بالحضارة المصرية القديمة.  

ويؤكد علماء الآثار المصرية وجود 12 نوعاً من الخبز كان يقتات منها المصري القديم وتعتبر المادة الرئيسية على مائدته العامرة دائماً، وحتى الآثار القديمة تحكي مسار صناعة الخبز بصورها المختلفة.

ومن بين أهم مراحل  صناعة الخبز حتى في الوقت الراهن تأتي عملية إضافة الخميرة والتي هي عبارة عن فطريات تُسرع عملية تَخَمُر الخبز، وهي المسألة المخبرية التي نالت اهتمام علماء استطاعوا استخلاص فطريات من الخميرة الفرعونية كانت خاملة لأكثر من 5000 عام، ومدفونة داخل أواني خزفية (من الفخار المصري)، بعد أن قرر الأمريكي شيموس بلاكلي استخدامها الآن في صناعة الخبز.
والمُفارقة أنه بالفعل تم إنتاج رغيف خبز باستخدام هذه الخميرة الفرعونية الأثرية، وهو ما نقلته هيئة الإذاعة البريطانيةBBC عن الأمريكي بلاكلي، أحد هواة علم المصريات ومطور ألعاب محترف لجهاز أكس بوكس Xbox، كما أنه يهوى صناعة الخبز وينشر العديد من الصور على وسائل التواصل الاجتماعي.

ونقلت عن بلاكي بأنه صنع "أرغفة رهيبة تشبه الصخور في شكلها"، لكن هذه التجربة (باستخدام الخميرة الفرعونية) كانت في إطار مختلف تماماً.
واستخرج بلاكي ميكروبات الخميرة من أواني فخارية فرعونية دون تدمير هذه الأواني، وتمكن بمساعدة عالمة الآثار سيرينا لوف، من الوصول إلى مجموعة من أدوات فرعونية لصناعة البيرة والخبز كانت محفوظة في متحفين في مدينة بوسطن الأمريكية، بحسب بي بي سي.

كما استعان أيضا بعالم الأحياء المجهرية بجامعة أيوا الدكتور ريتشارد بومان، لاستخراج الخميرة من الأواني الفخارية وتحديد سلالتها أيضا، حيث حقن بومان المواد الغذائية في الأواني الفخارية حتى تتغذى عليها ميكروبات الخميرة النائمة، وبعد ذلك قام بسحب السائل النائج عن هذه العملية. وتم إرسال معظم العينات لتحليلها معمليا، لكن بلاكلي احتفظ بواحدة.

وباستخدام المياه والحبوب القديمة وحاويات معقمة، قام بتجهيز المواد الأولية لتصنيع العجينة لمدة أسبوع. وذلك من أجل الوصول إلى أقرب المكونات التي كان يستخدمها المصريون القدماء لصناعة ما كانوا يعتبرونه خبزاً.

وقام بلاكلي بوضع الخمائر مع خليط من الحبوب التي طحنها بنفسه ولم يكن من بينها القمح المعروف حاليا، وكان الخليط مكونا من الشعير ونبات الحجل (يشبه القمح البري وحيد الحبة)، والذي كان يستخدمه الفراعنة قبل 10 آلاف عام.

ويوضح بلاكلي أن هذه الخمائر قديمة جدا، "بينما كانت هذه الخمائر نائمة، توصل المصريون القدماء إلى القمح الحديث".

وأضاف أن أقدم الأهرامات المعروفة في الجيزة يعود تاريخه إلى حوالي 4500 عام، بينما كانت سلالات الخميرة هذه مخزنة قبل ذلك بحوالي 700 عام، أي أنها عمرها يصل إلى 5200 عام.

ويقول: "كانت رائحتها (العجينة الأولية للخبز) مختلفة تماما عن تلك المعروفة حديثا". "كانت الفقاعات أصغر: أقل حدة، ولكنها أكثر نشاطا."

استخدمت التجارب السابقة عينات من الخميرة مكشوطة من أسطح الأواني، لكن يمكن تلوثها بسهولة. لقد نجحت تجربة إسرائيلية في استخراج الخميرة من داخل الأواني، ولكن باستخدام طرق دمرت الأوعية الفخارية نفسها.

لاستبعاد التلوث، تم إرسال عينات الخميرة لعملية تسلسل الجينوم (عملية تحديد التسلسل الكامل للحمض النووي لجينوم الكائن الحي). وقد تم بالفعل تسلسل بعض سلالات الخميرة الحديثة، مما يجعل من الممكن تحديد علامات حداثتها أو أنها بالفعل قديمة.

ويقول الدكتور بومان إنه فوجئ بالحصول على نتائج سريعة من العينة الأولى، لكن قدرة الخميرة الكمون كل هذه السنوات أمر معروف.

وقال بومان لبي بي سي: "يمكن لميكروبات الخميرة أن تنام وتنشط مرة أخرى.. الخمائر مخلوقات قوية للغاية."

يصعب خبز الحبوب القديمة لأنها تحتوي على القليل من الجلوتين، لكن بلاكلي يقول إن الخميرة "أحبتها": "لقد صنعوا بنية لطيفة (من العجين) ولب خبز يشبه الكعكة، كان ناعماً جداً، وكان الخبز برائحة الكراميل، أكثر حلاوة من العجين المخمر بخمائر حديثة".

تم خبز هذا الرغيف في فرن المطبخ التقليدي، ولكن كما أوضحت عالمة الآثار سيرينا لوف، كان المصريون القدماء يخبزون الخبز في أواني فخارية ساخنة.



في المرحلة التالية من المشروع، ستعمل هي وبلاكلي مع فناني صناعة الفخار لإعادة إنشاء الأواني القديمة على الطراز المصري واستخدامها في الخبيز.

فريق البحث المرتقب لديه بالفعل إذن من متحف آخر لاستخراج عينات الخميرة ومُكن من التعامل مع مجموعتين جديدتين من الأواني.

تكمن الفكرة في جمع عينات الخميرة من الممالك القديمة والوسطى والحديثة، ويفصل كل منها بين 500 و 700 عام ، ويتم خبز الأرغفة باستخدامها جميعا.

سيقوم بومان بترتيب الجينوم لتتبع الاتجاه الوراثي (التغير الوراثي) عبر القرون، وهناك تفكير لأنه قد يتم تصنيع خميرة فرعونية للتسويق والاستهلاك المحلي، وهكذا تبقى الحضارة المصرية القديمة مُحيرة في كل مساراتها حتى في خمائر الخبز التي وضح اكتشافها مبكراً جدا