وفي هذا السياق، تُعد الموسيقى الكردية فناً قديماً ومتجذراً في كيان الكُرد وهويتهم وشخصيتهم القومية.
ويستعرض هذا المقال بإيجاز أوله رسالة دكتوراه عن الموسيقى الكردية أعدها الراهب الأرمني جوميداس. ومن المفارقات، عاشت الجماعات الأرمنية والتركمانية والجركسية والسريانية والكلدانية والأشورية جنباً إلى جنب في الأوساط الكُردية في سلام تارة وفي خصام تارة. بيد أن الموسيقى جمعت الكل في بوتقة واحدة لدرجة أن أرمنياً تخصص أكاديمياً في التراث الموسيقي للكرد على نحو ما سوف نُفصله بدءاً من التعريف بجوميداس مروراً بأطروحته للدكتوراه وانتهاءً بفلسفته الموسيقية.
جوميداس.. النشأة والتعليم والتكوين
أجمعت المصادر على أن الطفل سوغومون كيڨورك سوغومونيان قد وُلد يوم 26 سبتمبر سنة 1869 في بلدة كوتاهية غربي الأناضول. وقد انحدر من أسرة أرمنية بسيطة، نزحت من وطنها الأم إلى كوتاهية أواخر القرن السابع عشر الميلادي بحثاً عن مصادر الرزق؛ إذ عمل والده في حرفة صناعة الأحذية، واشتغلت والدته تاكوهي في حرفة صناعة السجاد اليدوي.
فقد الطفل سوغومون والدته قبل أن يُكمل عامه الأول، كما فقد والده عندما أكمل العقد الأول من عمره أو يكاد. ولذا، قامت جدته بتقديم الرعاية الوالدية للصبي سوغومون. ورغم أنه لم يتحدث إلا باللغة التركية حتذاك، فإن معظم الآراء قد أجمعت على أنه ورث وجداناً فنياً وأدبياً عن عائلته التي نزحت أساساً من منطقة «كوغتان» الشهيرة منذ القدم بالشعراء والمنشدين الجائلين. هذا، وقد أكدت مصادر التأريخ لسيرة سوغومون سوغومونيان على أن والديه كانا يتمتعان بصوت عذب وحس موسيقي، ورثهما الصبي عن أبويه. ولذا، وُضعت البذرة الجنينية لعَبقرية الصبي الموهوب.
ولاريب أن طفولة الصبي سوغومون قد اتسمت بالحرمان والحزن الشديدين، ولذا، وُسم بالضعف والشحوب وشرود الذهن. ولم يستطع استكمال تعليمه الأولى في بروسة Brussa، وعاد بعد أربعة شهور فقط إلى كوتاهية محل إقامته، ولكنه أخذ يُغني باللغة التركية وأحيانًا الكردية بين جنبات البلدة بصورة متقنة لدرجة أن لقبه الأهالي بـ «اَلمغنَي الصغير الشارد».
وتُعد سنة 1881 من الأعوام المفصلية في سيرة الصبي سوغومونيان ومسيرته؛ ففي الثانية عشرة من عمره اختاره الأب تيرتساجيان- مطران كوتاهية- من عشرين يتيماً ليصطحبه إلى إيتشميادزين- المركز الروحي لعموم الأرمن - بغية الدراسة في معهد كيڨوركيان التابع للجاثليقية الأرمنية، ويُعد أهم مؤسسة تعليمية لرجال الدين في علوم اللاهوت والأدب والموسيقى.
ورغم أن الصبي سوغومون الصغير كان يتحدث بالتركية وأحيانًا بالكردية ولا يعرف اللغة الأرمنية، فإنه ورث الغناء الأرمني- شفاهة- بصوت عذب عن محيطه الأسري لاسيما التراتيل والأناشيد الدينية. وكادت أحلام سوغومون وطموحاته تذهب أدراج الرياح عندما اكتشف الجاثليق كيڨورك الرابع (1866- 1885) أنه لا يعرف الأرمنية.
بيد أن الصبي أكد لقداسة الجاثليق قدرته على الغناء بالأرمنية رغم عدم تحدثه بها. وبصوت سوبرانو رائع، أنشد سوغومون ترنيمة كنسية (شراكان) دون أن يستوعب معاني كلماتها. وثمة شهادات معاصرة تؤكد على أن الجاثليق قد بكى من روعة الصوت وورع الصبي سوغومون.
ويُعد هذا الحدث نقلة جد مهمة على درب مسيرة الصبي الموهوب سوغومون؛ إذ انطلق جامحاً في تعلُّم اللغة الأرمنية خلال عام واحد لاسيما الأرمنية القديمة (كراپار). ومكث يُتابع الدروس في معهد كيڨوركيان على كافة المستويات.
وأثناء دراسته في معهد كيڨوركيان، اكتسب سوغومون- التلميذ النابغ- معارف وأنغام موسيقية جراء اختلاطه مع أقرانه التلاميذ الوافدين من كل حدب وصوب سواء من أرمينية أو من المهجر، ولأول مرة، رأى سوغومون بأم عينيه هذا الخليط من التلاميذ الأرمن الذين ينشدون أغان ريفية متنوِّعة وثرية في موسيقاها وألحانها. ولذا، انبثقت لديه فكرة تدوين هذه الألحان أولاً بأول، وتسجيلها على نوتَات موسيقية.
وجدير بالذكر أن فترة دراسة الطالب سوغومون سوغومونيان في معهد كيڨوركيان تُعد من أبرز محطات تكوينه الفني؛ إذ على عكس زملائه الطلاب الذين كانوا يُغادرون المعهد إلى قراهم وبلادهم وقت العطلات الطويلة، مكث سوغومونيان في إيتشميادزين منتظراً الوفود والزواركي يستمع إلى تراتيلهم وصلواتهم وتسجيلها.
وبينما كان طلاب المعهد ينصرفون إلى ممارسة الألعاب الرياضية، آثر سوغومونيان البقاء وحيداً في حجرته المتواضعة بسيطة الأثاث هائماً بين تدفق الأنغام وعذوبة الأصوات. ليس هذا فحسب، بل كان يُمسك الريشة والمداد ويُسجِّل الأنغام والألحان المغناة حوله في نوتات، وينشدها بصوته «خو.. نيه.. با.. بو» بالأرمنية؛ أي: دو. ري. مي. فا. صول باللغات الأوروبية. ولذا، فلاغرو أن أطلق الأساتذة والطلاب عليه لقب «النوتاجي».
وهكذا، على مدار ما يُناهز العقد من الزمان (1881-1890)، نجح الطالب سوغومون سوغومونيان- صاحب الصوت الذهبي- في إجادة لغته الأرمنية الأم بجانب التركية مع الإلمام بالكردية، وكذا، تعمَّق في فهم واستيعاب أنغام الكنيسة الأرمنية.
الڨارتابيد جوميداس
في مطلع تسعينيات القرن التاسع عشر، تخرَّج سوغومون سوغومونيان في معهد كيڨوركيان، وتم ترسيمه كاهناً في عام 1890. وفي عام 1893، تم ترسيمة ڨارتابيد؛ أي راهب أعزب، ومنذ ذلك الحين، صار يُسمى «جوميداس»Gomidasعلى اسم الجاثليق جوميداس أوجتسيتسي (615-628) والذي اشتهر بكونه شاعراً ومؤلفاً للأناشيد الدينية (شراكانات) خلال الربع الأول من القرن السابع الميلادي.
وفي نفس التوقيت، تعيَّن جوميداس مُعلِّماً للموسيقى بمعهد كيڨوركيان. وعلاوة على التدريس، نظَّم الڨارتابيد جوقة (فرقة) وكورالاً وأوركسترا للآلات والأغاني الدينية والريفية بإيتشميادزين، وصار قائداً لها. وبسرعة، قام جوميداس بتعليم تلاميذه «القداس» بتراتيل متعدِّدة الأصوات، وقام بتوزيعها. وآنذاك، بدأ في وضع اللبنات الأولى لأبحاثه العلمية في عالم موسيقى الكنيسة الأرمنية.
وفي عام 1895، تم تعيين جوميداس أرشمندريت. وفي خريف هذا العام، غادر إيتشميادزين إلى تفليس Tiflis لاستكمال دراسته العلمية في الكلية الموسيقية هناك. وفي هذه الكلية، التقى جوميداس بالموسيقار الأرمني ماجار يجماليان الذي تلقى علومه في المعهد الموسيقي بالعاصمة الروسية بطرسبورج. وقد قام يجماليان بدور جد مهم في البناء العلمي لجوميداس؛ إذ عمَّق لديه دراسة «التناغم» بموجب سلسلة من المحاضرات ألقاها عليه، أسهمت بامتياز في توجيه الراهب الموهوب شطر مفردات وتقنيات الموسيقى الأرمنية.
لذا، سافر جوميداس في عام 1896 إلى العاصمة الألمانية برلين لدراسة الموسيقى في معهد البروفيسور ريتشارد شميث بدعم معنوي من الجاثليق مجرديتش ڨانيتسي (1892-1908) وبدعم مادي من ألكسندر مانتاشوف (مانتاشيان) محتكر النفط القوقازي. ولمدة تزيد عن الثلاث سنوات، عكف جوميداس على دراسة الموسيقى الأوربية وتاريخها، وتلقى محاضرات خاصة في فنيات الغناء مردِّداً الأغاني بصوته الباريتون الممتاز والعذب.
وفي خط متواز مع الدراسة الأكاديمية، تلقى جوميداس سلسلة محاضرات ودورات في التاريخ العام والفلسفة وعلم الجمال في جامعة الإمبراطور فردريك ويلهلم. وقد أنهى دراساته الأكاديمية في عام 1899 بالحصول على درجة الدكتوراة في الموسيقى والفلسفة، وتناولت أطروحته الموسيقى الكردية. وتُعد هذه الدراسة أول أطروحة علمية مختصة بالموسيقى الكردية في الأدب الموسيقي العالمي.
وحسب أطروحة جوميداس، تُعد الموسيقى جزءاً أصيلاً وعضوياً في الثقافة الكردية. وتكشف عن حياة ومعاناة الكُرد خاصة المرأة. وعندما تصغى إلى الموسيقى الكُردية، فإنها تصهر كل طبقات الروح والشجن الإنساني في صوت واحد، ما يلبث أن يصل إلى الأعماق.
وقد لاحظ جوميداس أن الشعب الكردي "محب للموسيقى"، وأبدع فيها، لأنها وسيلة التعبير الجيدة عما يجيش في وجدانه الجمعي وأحاسيسه الدفينة. كما لاحظ تفاعل الموسيقى الكردية مع نسيج الشعوب المجاورة حيث شملت المقامات الشرقية على مقامين كرديين وهما: الكُرد ونهاوند. وعرج الراهب الأرمني في أطروحته إلى موسيقيين كُرد أسهموا بامتياز في ترقية الموسيقى الشرقية من قبيل إبراهيم وإسحق الموصلي وزرياب. وتطرَّق إلى وصفي الدين رماوي مؤسس أول مدرسة موسيقية.
وتُعد الموسيقى الكُردية الحزينة أبرز أنواع الموسيقى المثيرة للإنباه نظراً لفرادتها وخصوصيتها والآلات التي تُستخدم فيها، وتنوُّعها بين الحزن العميق الطاغي وبين السرور السعيد الغامر. وتتميز بتنوُّعها وثرائها؛ إذ تضم أنواعاً مختلفة تتراوح بين الموسيقى الشعبية البسيطة وبين الأعمال المعقدة والمركبة. وتعتمد على الأداء المباشر والموسيقى التقليدية.
وتتنوَّع الموسيقى الكُردية وأغانيها بين القصص التاريخية وبين الأساطير الملحمية، وكذا، بين القصائد الغنائية وبين الأعمال الأدبية. وثمة ثلاثة أنواع حصرها جوميداس ممن أدوا الموسيقى الكُردية وهم: المنشدون، رواة القصة، الشعراء. وقد عزف الموسيقى الشعبية الحضرية موسيقيون محترفون وصفت الموسيقى الريفية للفلاحين والدراويش، وتنبثق من الموسيقى المرتبطة بالحياة اليومية.
هذا، وقد قامت الموسيقى الكردية على نمط خاص يُؤدَّي بين الجموع خلال فترة المساء. علاوة على الأغاني والملاحم التي تُجسِّد بجلاء الطبيعة الكردية الخلابة من قبيل "اللاوكس" الشعبي، وهو بمثابة أنشودة أو ملحمة شعبية بطولية تُعيد سرد أعمال أبطال الكُرد الأفذاذ.
ومن هذه الألوان أيضاً، "هيرانوس". أي أنشودة الحب التي تتناول آلام الفراق، أو الحب المستحيل. وثمة موسيقى دينية تُدعى "اللاوجي"، وأغاني الخريف "بايزوكس"، والأغاني "الإيروتيكية" التي تتناول العشق والهوى وتفاصيل حياة الكردي البسيط.
وهكذا، أتاحت فترة الدراسة البرلينية فرصاً أمام جوميداس للتواصل العميق مع الموسيقى الأوربية لاسيما الألمانية والفرنسية، وتوسيع آفاق معارفه، والانخراط في مدارسها النقدية.
وجدير بالتسجيل أن عام 1899 يُعد من المحطات الفارقة والمفصلية المهمة في حياة جوميداس ودوره الفني وموقعه المحوري في التراث الموسيقي الإنساني؛ إذ علاوة على تخرجه كموسيقار وعالم موسيقى وحصوله على الدكتوراة في الموسيقى الكُردية، أصبح جوميداس أول عضو غير أوربي في «الرابطة الدولية للموسيقى» التي تأسَّست عامئذ، وكان ممن أسهموا في إنشائها.
ومنذ هذا التاريخ، انطلق جوميداس في الأوساط الموسيقية الأوربية محاضراً ومناقشاً ومشاركاً في الندوات والمؤتمرات، وكذا، عازفاً ومغنياً في عدة حفلات. وبدعوة من الرابطة الموسيقية آنفة الذكر، ألقى الدكتور الراهب جوميداس سلسلة محاضرات بين عاميّ 1899-1901 في برلين عن موسيقى الكنيسة الأرمنية ومقارنتها بالموسيقات التركية والكردية والعربية.
وبذا، قام جوميداس بدور همزة وصل انتقلت بموجبها ساحرية الموسيقى الشرقية إلى الدوائر الأوربية، من خلال محاضرات ومؤتمرات وحفلات وكتابات علمية لاسيما روسيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا والنمسا وسويسرا.
وفي هذا الخصوص تحديداً، حرص جوميداس على توسيع دوائر التواصل مع العالم الأوربي بغية إيصال الموسيقى الشرقية إلى أعمدة ورموز الثقافة الأوربية على نحو ما فعل بمشاركته الناجحة في فعاليات «المؤتمر الدولي للموسيقى الكنسية» الذي انعقد في برلين عام 1901.
وبعد جولة برلين، ارتحل جوميداس إلى باريس، والتحق بمعهد «الدراسات الاجتماعية العليا» للوقوف على عوالم الموسيقى الفرنسية. وانكب على دراسة إبداعات الموسيقار الفرنسي كلود دوبوسيه وعزفها. ولم يقتصر على دوبوسيه فقط، ولكنه عرج إلى غيره من كبار المؤلفين والموسيقيين الفرنسيين من قبيل موريس رافيل وكابيريبيل فوريه وغيرهما.
وفي باريس، أتقن جوميداس اللغة الفرنسية، واستطاع تكوين فرقة موسيقية وغنائية من الأرمن والفرنسيين، ودربهم على الأغاني الشعبية والدينية الأرمنية. وبعد سلسلة من التدريبات والاستعدادات، قدَّم جوميداس الحفل الرسمي في عام 1906، الذي يُعد أول تجربة لتقديم الأغنية التراثية الأرمنية أمام النخبة الفرنسية.
وفي أعقاب العرض، تقدَّم دوبوسيه نحو جوميداس وانحنى أمامه قائلاً: «أيها الأب جوميداس، إنني أنحني أمام عظمة الموسيقى الأرمنية» ثم توجَّه إلى الجمهور قائلاً: «يكفي أن يكتب جوميداس أغنية أندوني كي يكون من عظماء الموسيقيين في العالم».
وجدير بالتسجيل أن جوميداس قدَّم في باريس عرضين مهمِّين بدعوة من «الرابطة الدولية للموسيقى»، أولهما عن «الموسيقى الريفية الأرمنية»، وثانيهما عن «النوتة القديمة والجديدة للموسيقى الدينية الأرمنية». وكان لهذين العرضين اهتمام كبير من قبل المشاركين في المؤتمر.
وصفوة القول، ركز جوميداس بشكل محوري- مراراً وتكراراً- في محاضراته واستعراضاته على أصالة الموسيقى الشرقية من منابعها الأصلية والأصيلة. وفي هذا الخصوص، كتب أوسكار فلايشر- رئيس الرابطة الدولية للموسيقى- إلى جوميداس ما يلي: «من خلال محاضراتك العميقة، علمتنا الموسيقى الوحيدة التي كانت بمثابة كتاب مغلق أمامنا. ولذا، يجب على الأوربيين أن يتعلموا الكثير منه».
وفي عام 1910، سافر الراهب النشيط جوميداس إلى الأستانة عاصمة الدولة العثمانية التي تُعد من أبرز التجمعات الأرمنية الثقيلة والمحورية خارج أرمينية. وهناك، أسَّس فرقة أسماها «كوسان»، تكوَّنت من «300» نسمة من الجنسين. وقد نالت هذه الفرقة شهرة واسعة في الأوساط الأرمنية بالأستانة؛ إذ شكلت الأغاني الريفية العمود الفقري للبرنامج الجوميداسي.وقد طمح جوميداس إلى تدشين معهد كونسيرڨتوار للموسيقى الأرمنية في الأستانة. بيد أنه لم يجد متحمسين هناك لهذه الفكرة.
ولم يقتصر إسهام جوميداس في ميدان تكوين الفرق الموسيقية الأرمنية الريفية والدينية على الأستانة فقط، ولكنه امتد إلى باكو وتفليس بالقوقاز، وكذا، الإسكندرية والقاهرة في مصر المحروسة.
في أوائل ينايـر 1911، وجَّه أرمن مـصر عن طريق هوڨهانيس مـوتـافـيـانـتـس-مدير الفرع المصري لمؤسسة مانتاشيف للنفط-دعوة إلى الراهب جوميداس لإلقاء محاضرات وإقامة حفلات بمصر.
وفي 29 يناير، وافق جوميداس على المجيء إلى عروس البحر المتوسط وإقامة حفلة مكوّنة من الموسيقى الأرمنية الكنائسية والريفية، وإلقاء محاضرتين عن نشأتهما وتطورهما. واقترح أرمن الثغر السكندري على «جوميداس» إعداد فرقة كنائسية ثابتة لكنيسة بوغوص بدروس للأرمن الأرثوذكس وتنظيم الغناء الكنائسي. ولكنه لم يُوافق بسبب قصر مدة بقائه في مصر. وقد اشترط أن يكون ثلث أرباح العروض مخصصاً له، أما جميع إيرادات المحاضرات فيُخصص له وحده من أجل طباعة أعماله-وفعلاً، تمكن بهذه الطريقة من طباعة كراستيه «أغاني ريفية أرمنية».
على أية حال، نظَّم «جوميداس» بالإسكندرية كورالاً من «190» شخص من الجنسين. وفي فترة وجيزة، دربّهم من مؤلفاته الموسيقية على سبع مقطوعات كبيرة من الموسيقى الكنائسية وخمسة عشر أغنية ريفية. هذا، وقد أُقيمت أول حفلة في 5 يونيو 1911 على مسرح الهمبرا بالإسكندرية، ثم عُرضت الحفلة الثانية في 16 يونية عامئذ على مسرح عباس بالقاهرة. وجدير بالذكر أن حفلتيّ «جوميداس» على أرض الكنانة قد وُصفتا بأنهما «تجسيد لروح الشعب الأرمني، تلك الروح الحماسية التي لا تستطيع أية قوة أن تكبتها أو تمحوها».
موسيقى الشعوب
ورغم أهمية إنجازات جوميداس في عالم الموسيقى الأرمنية والكُردية خصوصاً والشرقية عموماً، فإن عمله الأعظم والخالد قد تجلى في جمع التراث الغنائي والموسيقى الريفي والديني الأرمني. وقد هيمنت على الراهب الفنان قناعة مؤدَّاها أن «الشعب هو المبدع الأكبر». وفي هذا الصدد، كتب جوميداس ما يلي: «نحن نعرف الريف بجهله، ولكنه يتجسَّد أمام عينيىّ بمثابة مكان مقدس للفن الأرمني؛ إذ أرى هناك الأغنية الأرمنية على شفاه القرويات. كما أن المحراث والمنجل والحجر كلها مهمة بالنسبة لي».
بهذه القناعة، ساح الراهب الوقور على امتداد أرمينية والقوقاز والأناضول لما يزيد عن عقدين من الزمان بحثاً عن الموسيقى الريفية والدينية في طول هذه المناطق وعرضها متنقلاً بين القرى في ظل ظروف قاسية وصعبة جامعاً الأغاني من أفواه القرويين. ورغم أن البذور الجنينية لولع جوميداس بموسيقى الشعب الأرمني قد وُلدت في رحم أسرته ومراحل تعليمه الأولية، فإنها قد تبلورت واكتمل نضجها أثناء دراسته الأكاديمية في معهد كيڨوركيان بإيتشميادزين ومعهد البروفيسور ريتشارد شميت بألمانيا.
وبعد أن أنهى جوميداس دراسته للدكتوراة عن الموسيقى الكردية، انطلق بين ظهرانىّ الأرمن القرويين أينما كانوا، وأخذ يُسجِّل أغانيهم وأشعارهم وموسيقاهم في كل مكان وزمان، وفي كل الأعياد الدينية والقومية، وفي الحقول ومواقع العمل، وأثناء طقوس العبادة؛ وحتى رقصات المساء والنهار، وفي كل المناسبات الحياتية من أفراح وأتراح وأعراس ومآتم.
وثمة مشكلة واجهت رجل الدين الوقور أثناء جمع الإرث الفني الأرمني؛ إذ كيف لكاهن الانتقال بين القرى والجلوس مع أهاليها والاستماع إلى أغانيهم؟ ولذا، وجد الحل في التخفِّي والاستماع إليهم من خلف الجدران والنوافذ، وأحياناً من فوق السطوح. وما برح يُسجِّل ما يسمع أولاً بأول. كما عانى جوميداس بشدة من بعض رجال الدين الأرمن المعاصرين له، الذين لم يستوعبوا مغزى فلسفة موسيقى الشعب الأرمني وأهميتها في الوجدان الإنساني.
ورويداً رويداً، تجاوز الراهب المناضل جوميداس كل الصعوبات والعقبات، وجمع ما بين 3000- 4000 أغنية. ومن ثم، عكف على تنقيتها وتصنيفها وصياغتها ودراستها ونشرها بشكل نهائي.
وفي عام 1906، نشر جوميداس- بجهود أصدقائه- في باريس باكورة أعماله تحت عنوان «الغناء الأرمني»، والذي تناول فيه مجموعة من الأغاني القروية. ومن أبرز أعماله المنشورة في هذا المضمار: «الموسيقى والقروية الأرمنية» و«أغاني شعبية وكنسية أرمنية». ويُعد الكتابان الأخيران مهمين جداً في تفنيد النظريات الخاطئة بشأن الموسيقى الأرمنية؛ إذ بدأ جوميداس عملاً بحثياً جاداً، وعكف على دراسة الألحان الريفية والكنسية الأرمنية، وعمل على فك رموزها وشفراتها علاوة على تأصيل نظرية أصواتها.
وفي الواقع، قام الفنان المبدع جوميداس بتنقية الموسيقى الأرمنية مما يشوبها بغية أن تكون ذات طابع متميِّز ومتفرِّد. ولم تقتصر جهوده على الجمع والتصنيف والتنقية فقط، ولكن الأهم، دراسة قواعد الأغنية الأرمنية ومساراتها وسماتها.
رؤية جوميداس
جدير بالتسجيل أن الراهب الموسوعي جوميداس لم يحصر اهتمامه في الموسيقى الأرمنية فقط؛ إذ كان رائداً في اكتشاف التقاليد والقواعد والسمات الموسيقية الشرقية وتقارباتها وتـأثيراتها بعضها البعض. وبهذه الآليات، استطاع الوقوف على خواص اللغة الموسيقية الأصيلة لكل أمة من الأمم الشرقية بدءاً من الأرمن والكُرد مروراً بالأتراك واليونانيين وانتهاءً بالعرب والإيرانيين.
وأمام النُخب الأوربية، أكد جوميداس بأساليب علمية موسيقية أن الشعوب الشرقية وضمتها الكُرد آنفة الذكر تمتلك موسيقى ثرية وأصيلة مستمدة من تقاليدها على مر العصور.
وحسب النص الجوميداسي: «إن لغة وآداب أية أمة يُمكن أن تتغيران وتزدهران معاً وفقاً لشكل ودرجة تأثرهما من أية لغة وآداب، ولكن إذا امتلكت أمة ما لغة وأدباً خاصاً بها، واحتلت موقعاً مرموقاً بين الأمم، فلابد لها أن تحظ بموسيقى أصيلة وخاصة بها لأن موسيقى أية أمة نابعة من هجائية لغتها».
وبذا، وفقاً للرؤية الجوميداسية، تنبع لغة الموسيقى من موسيقية اللغة. وقد ثبتت صحة هذه الرؤية فيما يتصل بعلاقة أبجدية اللغة مع العلاقة الموسيقية-النوتة-القديمة؛ إذ أن أقدم علامة موسيقية تبنت أبجدية اللغة نفسها.
ومن الثابت أن مقاطع الكلمات المشدودة هي التي تكوِّن هجائية الكلمات نفسها؛ أي موسيقياتها. ولذا، ينبثق معنى الكلمات عن الإلقاء من موسيقية الكلمات ذاتها.وهنا، تحديداً، تكمن عبقرية الألمعي خالد الذكر جوميداس عندما دحض الفكرة السائدة في عصره بأن الموسيقى الشعبية تُخاطب العاطفة لا العقل.
بيد أن الراهب المبدع قد حدَّد نوعين من الموسيقى؛ أولهما الألحان التي تُنتزع من الكلمات الشعرية وإعطائها لحناً مختلفاً أو بالعكس، وثانيهما الكلمات التي تُولد في رحمها الموسيقى والشعر معاً. وحسب جوميداس: «ويُعد هذا هو الخلق الشعبي. ولايُمكن الفصل بين الكلمة والنغمة، أو فهم الواحدة دون الأخرى».
وبمعنى آخر، تشبث العلامة المبدع جوميداس بأن «الإبداع أو الخلق الشعبي يُخاطب العاطفة والعقل معاً»؛ أي أن موسيقية الكلمة هي التي تُبرز المعنى؛ إذ أن المعنى محصور في أساس موسيقيتها.
وهنا، تكمن أهمية جوميداس وعظمته في منظومة الموسيقى الشرقية عامة، وفي سياق ثقافة الموسيقى الكردية والأرمنية خاصة. ولا تقتصر هذه العظمة فقط في خلق «الحوار الأصيل»، بل حتى في الأسلوب الذي تبناه لـ «خلق هذا الحوار». وفي هذا الخصوص، تعني كلمة «بوليفينية» تعدُّد الأصوات في وقت معين، وتعني «هارمونية» تناسق وانسجام هذه الأصوات. بيد أن جوميداس لم يأخذ هذه الأساليب وطبقها بشكل آلي على الموسيقى الشرقية خاصة والأرمنية بالأخص، بل أوجد بوليفينية وهارمونية أصيلة في خواص اللغة الموسيقية الأرمنية والشرقية.
وفي المعاجم الموسيقية نجد صورة «الميلوديا» (النغم) تكون أفقية، بينما تكون صورة «الهارمونية» (تناسق الأنغام) عمودية. وبما أن التسلسل الأفقي الشرقي؛ أي الميلوديا الشرقية، يختلف عن مثيله الأفقي الغربي، فلذا، يجب قبل كل شيء دراسة عميقة لأفقية اللحن الشرقي، وبدونها لا يُمكن خلق حوار أصيل، وإلا فسيكون تطبيق قوانين الهارمونية أو العمودية الغربية على الألحان الشرقية شيئاً مصطنعاً. وكان الضعف الذي يُعطل الموسيقى الأرمنية قبل جوميداس يكمن في كون الموسيقيين الأرمن يأخذون عمودية (هارمونية) الموسيقى الغربية ويدرجونها على أفقية الموسيقى الأرمنية.
وأمام المنتديات الموسيقية الأوربية، رسم جوميداس خصائص أفقية اللحن الأرمني قائلاً: «إن الموسيقى الكنائسية والريفية الأرمنية ليست مبنية على الطراز الثماني الأوربي (Octave) بل وعلى الطراز الرباعي (Tetrachord) بحيث إن كل آخر نوتة لرباعي يُصبح أول نوتة للرباعي التالي. ... وهكذا، فمُوسيقانا الدينية والدنيوية تُبنى على طراز حلقات رباعية».
وأردف الراهب المبدع متابعاً أبحاثه ورؤيته فيما يتعلق بالفروق بين الألحان الأرمنيةوغيرها من الألحان الشرقية قائلاً: «نحن نأخذ رباعياً بسيطاً ونُغير تسلسله الأفقي على طراز نصف المقام، بينما في الموسيقى الفارسية والعربية والكُردية يُوجد ثلث وربع المقام». وقد حذَّر جوميداس من إنه حتى عدم وجود ثلث أو ربع المقام في الألحان الأرمنية لا يُبرر تطبيق الهارمونية الأوربية عليها.
وعموماً، تكمن أهمية جوميداس في الموسيقى الشرقية في إيجاده التناسق الأصيل منبثقاً من جوهر تسلسلها الأفقي؛ إذ باستعمال الحوار الموسيقي بين عدة ألحان (ميلوديات) وتركبها تتلاشى بحرية متعمدة، حتى تتناسق هذه الألحان بانسجام فني رائع، أوجد بهذا الأسلوب البوليفونية المسمى عادة كونترابونت Coonatrappunto هارمونية الموسيقى الأرمنية. ولذا، فلاغرو أن وصف كبار الموسيقيين جوميداس بأنه من «أكبر أساتذة البوليفينية في تاريخ الموسيقى».
ولم يقف الإسهام الجوميداسي عند هذا الحد؛ إذ تخطى إسهامه حدود الأغاني والألحان إلى تعدُّد الأصوات في الآلات الموسيقية الهوائية الخشبية. وحسب رؤية جوميداس مطلع القرن العشرين (1906): «من الممكن أن تتصاعد من الناي أصوات موسيقية عديدة»؛ أي أصوات عديدة في نفس الزمن الموسيقي. وبذا، أدرك العبقري جوميداس علاقة الآلات الموسيقية الهوائية الخشبية مع تعدُّد الأصوات، وربط هذه العلاقة للآلة كخواص للآلة ذاتها.
ولاريب أن نظرية جوميداس الثورية في الثقافة الموسيقية لم تعرفها أوربا إلا بعد نصف قرن، وتحديداً عام 1966، عندما عرضها الموسيقار الإيطالي برونو بارتولوتسي في كتابه «أصوات جديدة في الآلات الخشبية الهوائية» التي يُمكن أن تكون آلات بوليفينية.
ورغم أهمية الغناء في الثقافة الموسيقية، فإن جوميداس لم يحصر أهميته فقط في هذا المضمار، بل أكسبه قيماً حضارية وتاريخية معاً لاسيما فيما يخص النهضتين القوميتين الأرمنية والكُردية إبان أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
ومن المفارقات، بدأت نهضة الثقافتين الأرمنية والكُردية بعد قرون من الاضطهادات خاصة في ظل النير العثماني. ولذا، حتَّمت مقاومة الظلم والاضطهاد والنضال من أجل الحرية وجود سلاح ثقافي ليس لمحاربة العدو الخارجي فقط بل والداخلي أيضاً.
وحسب جوميداس، يكمن العدو الداخلي في «المتعصب القومي» الذي يرفض أي حوار ثقافي أو فني مع شعوب أخرى، أو هو ذلك المتعصب لأية ثقافة أجنبية، ولا يُعطي أية قيمة لتراثه الثقافي الأصيل.
وفي عبارة موجزة، رفع الراهب المبدع جوميداس سلاح اللحن-الأغنية للمقاومة والنضال، والكفاح في سبيل الحرية ونهضة ثقافة الأمة. وفي هذا الصدد، أبدع العبقري جوميداس قائلاً: «إن أغنية أصيلة واحدة تُعد أهم بكثير من ألف خطبة، لأن الخطبة تحتاج إلى وقت طويل كي يهضمها المتلقون ويستفيدون منها كغذاء روحي، ولكن الأغنية الأصيلة تستطيع أن تصل مباشرة إلى القلب والعقل لتُشعل نار العاطفة والعقل معاً».
وهكذا، خاطبت الأغنية الأصيلة-إبداع الأمة-العاطفة والعقل معاً.
وهكذا، تجاوز جوميداس العصبيات الدينية والعرقية والقومية والسياسية لصالح الإنسانية. وبدأ الدراسات الأكاديمية عن الموسيقى الكردية عشية نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. كما أسس أول مركز أكاديمي مختص في الموسيقى الكردية بالعاصمة الأرمنية يرفان باسم "مدرسة ماليكان" حيث تقوم بتدريس موسيقى الدينجبيج القديمة. وبعد حوالي ستة عقود، قام الأكاديمي الكردي سيميلا سيليل باستكمال ما بدأة جوميداس عندما جمع الأغاني الكُردية في كتابين خلال عاميَّ 1964 -1965. وبذا، صارت الموسيقى حلقة الوصل بين الشعوب بغض النظر عن الجنس والنوع واللون والدين.
مصادر المقال:
خاتشيك بيليكيان: الحوار الموسيقى الأرمني عند جوميداس وأهميته في نهضة الموسيقى العربية، بيروت، 1985.
ثيودور م. قيني: تاريخ الموسيقى العالمية، ترجمة د. سمحة الخوالي، بالقاهرة، 2015.
ولتر جيمس تيرنر: الموسيقى – تاريخ مجوز ترجمة: محمد التوني وأ. شكيب، القاهرة.