اليهود والأتراك.. من الطورانية إلى أردوغان
كتب الباحث في شؤون الشرق الأوسط وسياسات الهوية، الدكتور طه علي أحمد، مقالاً تحدث فيه عن عمق العلاقات بين اليهود والأتراك وحقيقة السياسة التركية تجاه القضية الفلسطينية واليهود
كتب الباحث في شؤون الشرق الأوسط وسياسات الهوية، الدكتور طه علي أحمد، مقالاً تحدث فيه عن عمق العلاقات بين اليهود والأتراك وحقيقة السياسة التركية تجاه القضية الفلسطينية واليهود
وكان نص المقال كالآتي:
يوماً بعد الآخر، تخرج علينا تصريحات المسؤولين الأتراك في لهجةٍ تبدو "حادة" تجاه الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين بشكلٍ يُوحي أن الدولة التركية بسياساتها العامة تناصب إسرائيل العداء، وتنتصر للحق الفلسطيني، وهو ما يضع السياسة التركية في إطار ما يُعرف بـ "الخطاب الشعبوي" البراجماتي (النفعي)؛ بمعنى استخدام الشعارات المثيرة لعاطفة وحماسة الجماهير لدعم المصالح التركية بغض النظر عن المسافة التي تفصلها عن نُصرة الفلسطينيين بشكلٍ حقيقي، بل وعمق العلاقات التركية الإسرائيلية المتجذرة تاريخياً. إن فهم جوهر السياسة التركية تجاه القضية الفلسطينية عامة واليهود خاصة يفرض علينا الغوض في العمق التاريخي لصيررة العلاقات بين اليهود والأتراك، وهو ما يتناوله هذا المقال.
اليهود والقومية الطورانية في التركية
يشغل اليهود حَيِّزاً مُعتبراً في التاريخ التركي حيث ترجع البدايات الأولى للوجود اليهودي في التاريخ العثماني إلى مطلع القرن السادس عشر، حينما تزوج السلطان سليمان القانوني (1494م – 1566م) جاريةً روسيةً يهوديةَ الأصل تُسمى "روكسلانة"، وهي التي أنجبت له ولديه بايزيد وسليم الثاني الذي عرف بـ "السلطان الغازي"، والذي حَلَّ وليا للعهد بدلاً من أخيه شاه زادة مصطفى الذي قتل بأوامر من السلطان سليمان على إثر وقيعةٍ افتعلتها زوجته روكسلانة ليحل محله سليم الثاني. ويبدو أن الزَجَّ بالجاريةِ الروسية قد جاء في إطار حيلةٍ مُدَبَّرةٍ من اليهود للتسلل إلى الدولة العثمانية، وهو ما يؤكده الدور الذي لعبته روكسلانة حينما أقنعت السلطان بالسماح لليهود الفارين من محاكم التفتيش في اسبانيا باللجوء إلى الدولة العثمانية، وهو ما مَثَّل البِذْرَةِ الأولى لظهور "يهود الدونمة" واتساع نطاق حضورهم في الدولة العثمانية، ووصولهم إلى مفاصل الدولة والسيطرة على مقاليد الحكم والقرار في المستويات العليا. وللتأكيد على ذلك، يورد المؤرخ في تاريخ الشرق الأوسط والدولة العثمانية بجامعة بينغهامتون الأمريكية، "دونالد كواترت" في كتابه "الدولة العثمانية: شهادة من التقرير السنوي لأوضاع اليهود في تركيا لعام 1893م" ما نَصَّه: "يتمتع اليهود في تركيا بقدرٍ من المساواة، حتى إن جلالة السلطان وحكومة الباب العالي ينتهجان سياسة بالغة التسامح مع اليهود".
في هذه الأثناء، وتحديداً في عام 1648م، ظهر يهود الدونمة في تركيا كطائفةٍ دينيةٍ يقودها شخصٌ يُسمى "سبتاي زئيفي" (1626 – 1675م)، وهو يهودي إسباني الأصل أعلن أنه مسيحُ بني اسرائيل ومخلصهم الموعود. وبفضل الحرية التي منحها لهم السلطان العثماني تكاثروا حتى قارب عددهم ثلاثمائة عائلة في عام 1683م، ثم بدأ اليهود يتدفقون على أراضي الدولة العثمانية، واستقروا في مدن رئيسية مثل اسطنبول وأدرنة وأزمير، كما استقر الكثير من اليهود بالقدس لتنطلق على إثر ذلك الحركةُ الصهيونية ومعها مشاريع الاستيطان، فازداد عدد اليهود في القدس ما بين 1880م – 1904م من 34 ألف إلى 60 ألف نسمة. ومع تسارع وتيرة هجرة اليهود إلى فلسطين لترسيخ الحركة الصهيونية اتبعت السلطات العثمانية ما يعرف بـ "سياسة غَضِّ الطَرْفِ" عن الاستيطان الصهيوني وعمليات شراء الأراضي الواسعة، بل اتسع الأمر ليشمل تشجيع الهجرة اليهودية وترسيخ حركة التملك، حيث أصدرت الحكومة العثمانية قرارات لها تأثير كبير في هذا الصدد، فبعد أن كان من المستحيل على الُمَّلاك الحصول على صكوك ملكية خاصة بحصصهم مما يمنعهم من بيع حصصهم، فإذا بالسلطات العثمانية تصدر قانون نزع الملكية العثمانية في عام 1914م الذي لعب دوراً كبيراً في تسرب الأراضي لليهود.
تزامن ذلك مع تنامي الحركة القومية الطورانية المتطرفة التي أخذت في الظهور مع نهاية القرن التاسع عشر، حيث كانت تسعى لبسط سيادة العرق التركي على ما سواه من الأعراق والمكونات المشكلة للدولة العثمانية، وقد تأثَّرت نشأةُ هذه الحركة بموجة القوميات التي اجتاحت أوروبا في القرن التاسع عشر، وكانت الطورانية ترى أن فكرة "الرابطة العثمانية" التي نشأت في إطار الإمبراطورية العثمانية غير قادرة على جمع الشعوب والجماعات ذات الأصل التركي، ومن ثم دعت لجمع الأتراك وتوحيد لغتهم وثقافتهم وضم كافة الأراضي المجاورة التي يتواجدون فيها.
لعب اليهود دوراً مهماً في التنظير للحركة الطورانية؛ فهذا المفكر اليهودي الصهيوني الفرنسي "ليون كاهو" Léon Cahun (1841م – 1900م) أول من أسهم في التنظير للطورانية من خلال كتابه الذي يحمل عنوان "مدخل إلى تاريخ آسيا: الترك والمنغوليين منذ نشأتهم حتى عام 1405م"، حيث تحدث بصورة إيجابية تجاوزت حدود الوصف إلى المدح في حق قادةٍ تاريخيين مثل جنكيز خان وتيمور لنك الذين واعتبرهما بطلان قوميان، وقد ترتب على ذلك أن حاز كاهون على ثقة وإعجاب الأتراك به حتى أن الأفكار الواردة في كتابه قد مثلت أساساً للإطار الفكري للحركة القومية. وهناك أيضا اليهودي المجري "أرمنيوس فامبيري" الذي ألف كتاباً بعنوان "رحلة درويش في آسيا الوسطى" الذي تضمن أفكاراً نظرية انتقد فيها الإسلام واعتبر أنه"ينافي الوطنية وهو لا وطن له ومن العسير أن تبنى الأوطان وفقاً للإسلام"، واعتبر أن الإسلام ينزع عن الأتراك شخصيتهم التركية فدعا لإعلاء شأن الفكرة الطورانية، وقد عمل اليهود على الترويج لهذا الكتاب الذي لَقِيَ قَبُولاً بين أعضاء جمعية الاتحاد والترقي. وقد مثَّلَت أفكارُ فامبيري الدافع لصياغة أفكار "ليون كاهو" سالفة الذكر.
في هذه الأثناء، تأسَّست العديدُ من المحافل الماسونية في القسطنطينية مما أتاح للشخصيات القيادية في جمعية الاتحاد والترقي أن يشكلوا دائرةً داخليةً مُتَّحِدةً للروابط الماسونية لتدعيم الحركة الطورانية ومبادئها. وبطبيعة الحال، كان ليهود الدونمة دورٌ في اتساع نطاق المحافل الماسونية لاسيما وأن العمل السري كان أهم سمات عمل هذه المحافل، كما أن العديد من الوثائق الصادرة عن دائرة المعارف الأمريكية وأيضا دائرة المعارف اليهودية والتي يرجع تاريخها لعام 1906م، تؤكد في معظمها الارتباط الوثيق بين الماسهونية والجماعات اليهودية، إذ تنطلق الفكرة الرئيسة للماسونية من العقيدة اليهودية سواء على مستوى الفكر أو الممارسة حيث تستمد الطقوس الماسونية وحيها ومرجعيتها من التراث اليهودي، ويؤرخ لبداية الماسونية في الدولة العثمانية إلى عهد السلطان أحمد الثالث (1703 – 1730م).
خلال السنوات التي سبقت تولي السلطان عبد الحميد الثاني الحكم كان يهود الدونمة والماسونية يشكلون بشكلٍ كبير على سياسة الدولة وذلك من خلال حركةٍ عرفت باسم "جون ترك"، وهي حركةٌ سريعةٌ تابعةٌ للجمعيةِ الماسونية التي كانت تباشر نشاطها من سالونيك وتضم اليهود الأكثر نفوذا في أوروبا، كما دعَّم اليهود إنشاء العديد من الجمعيات السرية، حيث أُنشئت جمعية "تركيا الفتاة" التي كان أكثر زعمائها من حركة يهود الدونمة، كما أن "جمعية الاتحاد والترقي"، التي تَمَكَّنَت من الإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني والسيطرة على مقاليد الحكم في البلاد، قد تأسَّست على يد أحد "اليهود السبتيين" ويدعى باروخ لوي في سالونيك عام 1889. وقد كان لليهود دوراً كبيراً في المذابح الأرمنية بشرق الأناضول، كما أنهم أقنعوا السلطان محمد رشاد (2 تشرين الثاني 1844 - 3 تموز 1918) بالانضمام لدول المحور في الحرب العالمية الأولى بجانب كلٍ من ألمانيا وإيطاليا وهو ما ترتَّب عليه إضعاف الدولة العثمانية وخسارتها كامل أراضيها بل ومحاصرة اسطنبول فيما بعد.
ولعل ما يوضح نفوذ اليهود بجمعية الاتحاد والترقي آنذاك أن انعقاد الجمعية الوطنية التركية للإعلان عن قيام الجمهورية التركية في عام 1923م وانتخاب مصطفى كمال أتاتورك كأول رئيس لها، كان ذلك في قصر يتبع لأحد الأثرياء اليهود السبتيين. ولعل في ذلك السرد التاريخي ما يُفَسِّر عمق الروابط بين تركيا واسرائيل منذ نشأتها في عام 1948م على أُسُسٍ وثيقةٍ، إذ فكانت تركيا هي الدولة الإسلامية الأولى التي اعترفت بإسرائيل في 28 آذار 1949، ثم تأسَّسَت أول بعثة دبلوماسية لتركيا في تل أبيب في 7 كانون الثاني 1950م. كما عكس ذلك التلاقي في الرؤية الجيوبوليتيكية لـ "بن غوريون" التي تهدف في المقام الأول إلى محاصرة العالم العربي فيما يُعرَف بـ "نظرية التخوم" والتي تقوم نسج شبكة من العلاقات المتينة مع القوى الإقليمية المحيطة بالعالم العربي مثل تركيا وإيران وإثيوبيا.
نتيجة للتشابه في النزعة القومية المتطرفة لدى كلا الجانبين، وموقفهما المعادي من أي نزعة قومية ناشئة بين شعوب المنطقة كالعرب والكرد وغيرهم، فقد اتخذ مسار العلاقات بين تركيا واسرائيل شَكلاً متوازياً ومتكاملاً على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية، وذلك في إطارٍ من التنسيق لمواجهة التحديات المحيطة بكلا الجانبين، كالتحدي القومي العربي لدى الإسرائيليين وحرص الأتراك على إخماد أية حركة قومية كُردية في محيطها الإقليمي، وقد تجلَّى ذلك في اتفاقية للتعاون الأمني الذي وقعها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق دافيد بن غوريون (1886م – 1973م) ونظيره التركي عدنان مندريس (1899م – 1961م) في عام 1958م، وقد شمل هذا الاتفاق تبادل المعلومات الاستخبارية والدعم العسكري.
واستمراراً لذلك، وقَّعَت الحكومتان الإسرائيلية والتركية على اتفاق للتجارة الحرة حيث دخلت حيز التنفيذ في نيسان 1997م بالإضافة إلى اتفاقٍ عسكريٍ مُوَسَّعٍ، تم التوقيع عليه في 1996، وقد شمل التعاون في مجالات البحوث الاستراتيجية المشتركة، واستخدام القوات الإسرائيلية للأجواء التركية للقيام بتدريبات عسكرية وطلعات جوية تعويضا لمحدودية المجال الجوي الإسرائيلي، وصيانة المعدات العسكرية، وتبادل الطيارين 8 مرات سنوياً، بجانب إجراء مناورات مشتركة وأمور أخرى. وبجانب العمق التاريخي للعلاقات بينهما، فقد جاء هذا الاتفاق في إطار انفتاح تركيا على قوى تراها أنقرة فاعلة إقليمياً، فضلاً عما قد يترتب على ذلك من دوافع تعزز مسيرتها التفاوضية بشأن الانضمام للاتحاد الأوروبي، بالإضافة لمنح القوات الجوية الاسرائيلية حرية الحركة في الشمال السوري والاستفادة من ذلك في الحصول على معلومات استخباراتية تخص مواقع قوات حزب العمال الكردستاني التي تلاحقها تركيا في هذه المنطقة. وفي هذا الإطار، أجرى الجانبان مناورات عسكرية تحت مسمى "عروس البحر الآمنة" في 1998م.
حزب العدالة والتنمية ومزاعم العداء المُصْطَنَعَة
وَصَلَ حِزبُ العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان إلى السلطة في تركيا عام 2002، وقد بلغت مفاوضات الالتحاق بالاتحاد الأوروبي ذروتها خلال هذه الفترة (2002 – 2005)، وهو ما أسهم في تعزيز وتيرة العلاقات التركية الاسرائيلي، إذ يقدم كلاهما نفسه للغرب كداعمٍ أو وكيلٍ إقليمي في الشرق الأوسط، بل واتسعَ نطاقُها على خلاف المزاعم التركية. وفي هذا السياق تواصلت التفاهمات العسكرية التي شَمَلتَ تحديث 170 دبابة تركية من طراز M6، وذلك في إطار صفقة بلغت 668 مليون دلار. وفي 2005، قام أردوغان، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، بزيارة تل أبيب حيث أبرم اتفاق بقيمة 500 مليون دولار لتحديث مقاتلات من طراز فانتوم F4, F5، كما حصلت أنقرة على نظم محطات أرضية وصواريخ أرض جو. وفي 5 أيلول 2007 نَفَذَّت إسرائيل عمليةً عسكريةً تجاه سوريا عُرِفَت باسم "عملية البستان" زعمت أنها ستهدف مفاعل نووي قرب دير الزور.
على أيةِ حال، فقد مَضَت مسيرةُ العلاقات الاسرائيلية التركية في تنامٍ ملحوظٍ رُغم المزاعم بمعاداة إسرائيل التي تضمنها الخطاب السياسي الذي استخدمه عند مخاطبة الرأي العام، في تركيا وكذا الدول العربية، بشأن سياساته الإقليمية، وهو ما يمكن أن نقرأه في السياق العام لواقعتَي الانسحاب من جلسة "الحوار حول السلام في الشرق الأوسط"، بمنتدى دافوس العالمي في 29 كانون الثاني 2009م، وأحداث اعتداء القوات الاسرائيلية على أسطولٍ مُكَونٍ من سِت سُفُن، بينهما ثلاث سفن تركية، كانت تحمل نشطاء داعمين للقضية الفلسطينية في أيار 2010م، وقد قُتِلَ خلالها، بين آخرين، عشرة أتراك. ففي الواقعة الأولى عَمَلَت الآلةُ الإعلامية (التركية وغير التركية) الموالية لحزب العدالة والتنمية على تصوير الموقف باعتباره بطولة من جانب الرئيس التركي الذي انسحب من جلسة يشارك فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي شيمون بيريز، لكن واقع الأمر تكشف عنه رواية اثنين من شهود العيان، من كبار المسؤولين المشاركين في هذا الحدث، الأول هو الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية، عمرو موسى، والثاني هو أحمد داوود أوغلو وزير خارجية تركية المرافق لأردوغان خلال الواقعة المشار إليها، حيث قال عمرو موسى أن اعتراض أردوغان وانسحابه إنما جاء في الدقيقتين الأخيرتين من مُشاركةِ أردوغان في الفعالية، وما كان انسحابه إلا احتجاجاً على عدم السماح له بالحديث خلال هاتين الدقيقتين، وليس احتجاجاً على مشاركة بيريز كما روَّجت الدعايةُ التركية. أما داوود أوغلو، وهو أحد رجال أردوغان ووزير خارجيته والمُلَقَّب بـ "مهندس السياسة الخارجية التركية"، فقد كَشَفَ في وقتٍ لاحق أنه كان يجري تحركات دبلوماسية بنفسه من وراء الستار لتسوية الأمر وتطويق أية تبعات لموقف أردوغان. أما بالنسبة لواقعة أسطول الحرية، فقد تمَّت تسويتُها بموجب صفقةٍ قضت بدفع إسرائيل 20 مليون دولار كتعويضات لضحايا الحادث مقابل أن تُسْقِطَ تركيا الملاحقات القضائية ضد العسكريين المتورطين في الحادث، واستعادة العلاقات الطبيعية بين الجانبين في حزيران 2016م.
إن السياق العام للواقعتين السابقتين يؤكد على الصِبغَةِ البراجماتية للعلاقات القائمة على المصالح المتبادلة بين تركيا واسرائيل؛ فخلال الفترة من 2008 – 2013، التي وَقَعَت فيها هاتان الواقعتان، ارتفع حجم التبادل التجاري بين الجانبين بشكل ملحوظ حيث بلغ 5.8 مليار دولار في 2014، وذلك مقارنة بـ 1.4 مليار دولار في عام 2002. وقد تعزَّزت هذه القفزة في بتطور التعاون العسكري، والذي كان أبرزه حصول انقرة على منظومة إنذار مبكر متطورة من إسرائيل في شباط 2013م بقيمة 200 مليون دولار، وذلك رُغْمَ الأزمة الدبلوماسية التي شابت العلاقات بينهما، وهو ما يعني تضاعف التبادل التجاري بين تركيا واسرائيل أكثر أربعة أضعاف منذ وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة.
وفي إطار مساعي أنقرة للاستفادة من التطورات المتصلة باكتشافات الغاز في منطقة شرق المتوسط، قال أردوغان، في شباط 2022، إن بلاده يمكنها نقل الغاز الاسرائيلي لأوروبا، وفي آذار من نفس العام قام رئيس اسرائيل، إسحق هيرتزوغ، بزيارة تركيا بدعوةٍ من أردوغان، وبعدها بأسابيع أجرى وزير الخارجية التركي السابق، مولود شاويش أوغلو، زيارةً لتل أبيب والتقى رئيس الوزراء الاسرائيلي يائير لابيد. وفي تموز أعلن الجانبان اتفاقهما على استعادة العلاقات الكاملة بين الجانبين، حيث تم تعيين إيريت ليليان كسفيرةٍ لإسرائيل لدى تركيا في 19 أيلول 2022م. وفي اليوم التالي التقى أردوغان مع لابيد على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، كما التقى قادة اليهود بالولايات المتحدة وأعلن آنذاك نيته زيارة اسرائيل في وقت قريب. وكمُحَصلةٍ لذلك، تجاوز حَجْمُ التبادل التجاري بين البلدين 10 مليارات دولار في نفس العام 2022، وذلك فقاً للسفير التركي في اسرائيل الذي كشف طموح البلدين لزيادة هذا الرقم إلى 15 مليار دولار شاكر أوزكان تورونلار.
الخلاصة
وهكذا، فإن المتتبع للمسار التاريخي للعلاقات بين تركيا واسرائيل، يجد أنها تُمَثِّل نموذجاً مِثالياً للبراجماتية السياسية التي تنطلق من التوافقات التاريخية، والمشتركات الجيوستراتيجية، لاسيما مع العداء التاريخي بين المشروعين الصهيوني والتركي مع أي مشروع آخر في المنطقة سواء على المستوى العربي أو بقية شعوبة المنطقة مثل الكرد وغيرهم.
ورغم ما يبدو من تخبط في وتيرة العلاقات الإسرائيلية التركية، إلا أن النهج البراجماتي (النفعي) هو أبرز ما يميز هذه العلاقات ما يعني أن أية مفردات قيمية وشعارات إنسانية يرفعها الرئيس التركي بزعم دعم الفلسطينيين في مواجهة العدوان الإسرائيليين عليهم إنما هو من قبيل الاستهلاك المحلي والخطاب "الشعبوي" الهادف لتعزيز وضع أردوغان في السلطة؛ ففي 15 تشرين الثاني 2023، وفي خطاب أمام الكتلة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية الحاكم اتهم أردوغان اسرائيل بأنها دولة إرهابية، وتمارس "إبادة عرقية" بحق الفلسطينيين، بل انه الحكومة الإسرائيلية بـ "الفاشية"، ومن قبل ذلك فإن وزير الخارجية التركي أمام القمة التي عقدت في القاهرة يوم 31 أيلول 2023م بشأن الحرب الإسرائيلية في غزة، قد أغرق في مهاجمة إسرائيل بأشد العبارات.
لكن أمام ذلك يبرز التناقض بين الخطاب السياسي التركي وواقع السياسات التركية في الشرق الأوسط؛ إذ لا تزال تركيا تحاكي السلوك الإسرائيلي ذاته على الأراضي السورية، بل إنها تمارس ما يوصف بـ "الإبادة العرقية"، و"تتريك" الأراضي السورية التي احتلتها على إثر عمليات عسكرية غير شرعية خلال السنوات الأخيرة. كما أن ممارسات الأتراك تجاه الكرد ومساعي طَمْسِ الهوية الكردية في تركيا وخارجها، بل ومحاولة إفشال أية محاولة كردية لخلق نموذجٍ مجتمعي أوسياسيٍ أو اقتصاديٍ في شمال وشرق سوريا، إن كل ذلك يتطابق مع السياسة الاسرائيلية تجاه الفلسطينيين، وهو ما ينبع في المقام الأول من التشابه الكبير في نشأة كل من تركيا وإسرائيل كونهما قامتا على حساب الشعوب الأصلية في نطاقهما الجغرافي (العرب في فلسطين، والكرد في تركيا).
كما أنه رغم ارتفاع الصوت التركي بين "الشجب" و"الإدانة"، للسياسات الاسرائيلية، إلا أن ذلك لم يصحبه سوى خطوات رمزية مثل "مجرد" استدعاء سفيرها لدى إسرائيل في 14 تشرين الثاني 2023 على خلفية الحرب الدائرة في غزة، مع الإبقاء على السياق العام للعلاقات عند مستويات عميقة (عسكرياً وتجارياً ...إلخ). إن ذلك يعكس تجذر الدور والتأثير اليهودي في بنية العقل التركي منذ القرن السادس عشر كما تمت الإشارة إليه في السطور السابقة.
المراجع
[i] دونالد كواترت، الدولة العثمانية 1700 – 1922م، (الرياض: العبيكان، 2004)، ص309.
مسيكة شهاب، لويزة وثلجة، دور اليهود في تصدع الدولة العثمانية: حركة الدونمة والماسونية أنموذجاً، رسالة ماجستير، (الجزائر: جامعة يحي بن فارس، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، 2020).
أيمن أحمد محمود، الحركة الطورانية وأثرها على المشرق العربي 1908 – 1918م، مجل الدراسات التاريخية والحضارة المصرية، (القاهرة: العدد 11، ج2، أكتوبر 2021).
هيثم ياسر عيسى، التغيرا والتسهيلات التي حصل عليها اليهود في فلسطين في عهد الاتحاديين 1909 – 1914م، مجلة بحوث الشرق الأوسط، ع 44.
نورة زريق، أميرة خنوش، الحركة الطورانية في الدولة العثمانية: المظاهر والتداعيات، رسالة ماجستير، (الجزائر: جامعة يحي فارس، كلية العلوم الانسانية والاجتماعية، قسم العلوم الانسانية، 2020).
عصمت برهان الدين، تغلغل الماسونية في الدولة العثمانية 1830 – 1918، (جامعة الموصل، كلية الآداب، بدون تاريخ نشر)
علي شلش، الماسونية في مصر، (القاهرة: مركز وثائق وتاريخ مصر المعاصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993).