تابع الجميع إعلان نائب رئيس الحكومة اللبنانية سعادة الشامي إفلاس الدولة اللبنانية والمصرف المركزي اللبناني، وساد الهرج والمرج على وكالات الأنباء والمواقع الالكترونية والصحف ومواقع التواصل الاجتماعي، علما أنه ومن نواح عديدة لا أساس لهذا الكلام من الناحيتين القانونية والرسمية ولا حتى الاقتصادية، فالكلام جاء خلال برنامج حواري على إحدى المحطات التلفزيونية اللبنانية بسياق الكلام العام عن الاقتصاد وتم اقتطاع فقرة فقط من مجمل الحوار العام، وبالتالي فان المختصين في هذه الملفات يعرفون تماماً الفرق بين إعلان الإفلاس وبين التعثر وعدم القدرة على السداد، كما ان اعلان الافلاس لا ياتي من خلال وزير أو حتى نائب رئيس حكومة بل من خلال راس الدولة أو رئيس الحكومة أو حاكم المصرف المركزي بعد اتصالات دولية مع الجهات المختصة.
لبنان فعليا في أزمة اقتصادية وهذه ليست المرة الأولى التي يعاني منها من هذا الامر، فقد سبق وأعلنت الدولة اللبنانية عدم قدرتها على سداد مديونتها من سندات اليورو بوند المستحقة عليها، وسبق ان تعرض هذا البلد لمآزق اقتصادية عدة في تاريخه الحديث خلال الحرب الاهلية وبعدها وصولا إلى وقتنا الحاضر.
وظهرت هذه الازمة الاقتصادية المستمرة بشكل واضح الان بل ارتفعت مستوياتها بسبب عوامل كثيرة، منها الابتعاد الخليجي عن لبنان بسبب الخلافات السياسية مما ادى إلى حرمان الخزانة العامة من الودائع الخليجية والاستثمارات المباشرة وغير المباشرة والتي كانت تعتبر رافدا اساسيا للعملة الصعبة، كما شكل انفجار مرفا بيروت ضربة موجعة نظرا للاضرار المادية الكبيرة الناتجة عنه وارتفاع تكلفة اعادة اعمار المنطقة التي تضررت، كما يعاني لبنان وبشكل مستمر منذ العام 2014 من انخفاض تحويلات المغتربين والتي تعتبر ايضا رافدا اساسيا للاموال الداخلة إلى لبنان، وزادت ازمة وباء كوفيد 19 من الازمة بسبب الانكماش الاقتصادي العالمي وتوقف الحركة السياحية بالكامل نظرا لان القطاع السياحي يعتبر اكثر القطاعات المنتجة مع شبه غياب للقطاعات الزراعية والصناعية، وحاليا ومع الازمة الروسية الأوكرانية فان الامور زادت سوءا مع ارتفاع سعر النفط العالمي وتكلفة النقل وصعوبة الحصول على المواد الغذائية الاساسية.
إن مشكلة الاقتصاد اللبنانية ليست مشكلة آنية ولا تتعلق بالاقتصاد نفسه، فلبنان كما أسلفنا بلد يعتمد على الاقتصاد الريعي اي يعتمد على السياحة والودائع والتحويلات الخارجية ولم يقم بأي خطوة حقيقية لدفع عجلة الزراعة أو الصناعة لدعم التصدير، كما أن التعاطي الداخلي مع المؤسسات الحكومية ذات الصلة مع الاقتصاد محكوم بتلاعبات سياسية،.
ويعتبر لبنان من الدول التي تعاني من الاستقطابات السياسية الداخلية وتقاطع المصالح والتقاسم السايسي والمالي والفساد الذي يديره امراء السياسة الحليون والذين كان معظمهم امراء الحرب الأهلية، فاداروا البلاد خلال الفترة الماضية بعقلية المليشيات والاستنفاع وتنفيع الموالين لهم على حساب الاقتصاد اللبناني مما ادى إلى استنزاف الاموال العامة بشكل واضح.
كما أن السياسات المالية التي اعتمدها مصرف لبنان، وبالمناسبة هي تنفيذ لقرارات الحكومات المتعاقبة وليست قرارات صادرة عن المصرف فقط، ادت إلى تسريع عملية الاستنزاف، فتم اعتماد نظريات تدوير واعادة تدوير الاموال لدفع المستحقات الدولية والمحلية، كما تم اعتماد نظرية "بونزي" والتي تقضي بسحب اموال المواطنين مقابل الاغراء بفوائد مرتفعة فيتم دفع الفوائد أو الاموال المسحوبة من اموال المودعين الجديدة، مما ادى تفاقم ازمة السيولة في المصارف ومعها مصرف لبنان.
والحلول العاجلة المطروحة بالوقت الحالي هي التوجه للجهات المانحة وعلى رأسها البنك الدولي، والذي يضع شروطا واضحة وعلى رأسها تغيير السياسة النقدية واجراء اصلاحات سياسية واقتصادية قبل البدء بضخ الاموال، الا ان هذا الملف (اي الاصلاحات الاقتصادية والسياسية) من الملفات التاريخية التي يتم التلاعب بها وعدم الغوص بها فالمطالبة الدالية به بدات منذ العام 1946، ثم عادت إلى السطح خلال الازمة التي ضربت لبنان خلال حكم الرئيس الراحل كميل شمعون والتي ادت انذاك إلى تدخل عسكري اميركي مباشر لابعاد الحرب الاهلية.
واستمرت الأمور كما هي عليه بتصدير اليد العاملة والعقول اللبنانية إلى الخارج مع تقدم خجول للاستثمار والتجارة والاعتماد الكلي على السياحة وتحول كامل التجارة البحرية العربية والاقليمية والدولية من ميناء حيفا إلى موانئ لبنان، وصولا إلى العام 1967 وقت حصول النكسة وما تلاه ا في العام 1967 الذي قرر نقل اللاجئين الفلسطينيين إلى لبنان، حيث وقع الاقتصاد اللبناني المهتز في فخ فعلي بسبب الاموال الفلسطينية التي تدفقت جراء هذا القرار، الا ان الضربة القوية جاءت بعد العام 1982 إثر خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان ونقل أموالها إلى الخارج مما أحدث هزة أو بمعنى اصح ضربة قوية للاقتصاد اللبناني والقيمة السوقية لليرة اللبنانية، وتقدر خسائر الحرب الاهلية التي استمرت من العام 1975 وحتى العام 1990 بنحو 25 مليار دولار وانهيار سعر صرف الليرة إلى اأن تم اعتماد تثبيتها في العام 1992، وتوالت الضربات مع اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري والاجتياح الاسرائيلي للبنان في العام 2006، وكان يتم تعويض الخسائر وقتها باموال خليجية غالبيتها من قطر والسعودية والامارات.
إن توقيت تصريح نائب رئيس الحكومة مريب دون شك، فهو يأتي عشية الانتخابات النيابية المزمع اجرائها، واتى على لسان شخص مختص بالازمات المالية وحلولها، لكنه في الوقت نفسه يأتي من شخص محسوب على الحزب القومي السوري الاجتماعي الذي يدور كما هو معلوم في فلك ح الله وتيار الثامن من اذار، مما يفسر بانه انذار من قبل هذا الفريق للولايات المتحدة برفع العقوبات المفروضة ولو بشكل جزئي على بعض الشخصيات والشركات اللبنانية وهذا أمر لن يتم وبالتالي سيتم استغلال هذا الملف خلال الانتخابات النيابية، أو يقصد هذا الفريق اخضاع الدولة اللبنانية لشروط البنك الدولي القاسية باي شكل خلال الفترة القليلة المتبقية لتحميل الفريق الوزاري الموجود حاليا المسؤولية، أو فتح الباب للشرق اي الصين وإيران وروسيا (رغم أزمتها) كمبرر للإنقاذ وإزاحة واشنطن والعواصم الغربية من الساحة اللبنانية وذلك من ضمن اعادة التشكيل التي تخضع لها المنطقة على غرار ما يشهده العالم بسبب الحرب الأوكرانية الروسية والتي ستمتد اثارها على مدى السنوات المقبلة من ناحية عودة القطبين واعادة توزيع السيطرة على المناطق الاساسية في العالم ومن بينها منطقة الشرق الأوسط نظرا للاهمية الاقتصادية والمالية والاستراتيجية والسياسية، لكن حتى هذا الامر مرهون ببعض العوامل التي تعتبر جانبية ومنها العلاقات الايرانية السعودية وما ستؤول اليه في حال ضم المنطقة إلى الحضن الروسي وبالتالي إلى الحلف الثلاثي الذي يسعى إلى التوسع قدر الامكان باي شكل من الاشكال ومهما كانت النتائج.