كتب الكاتب الصحفي المصري نبيل شرف الدين مقالا عن القائد عبدالله أوجلان، نسج بخيوط كلماته بورتريه عن شخصية القائد أوجلان وملامح المؤامرة الدولية تجاهه.
وفيما يلي نص المقال:
تحط خيول المغول قديمًا على كتفي أوجلان
الوحيد هنا وهنالك.. بحيث تنتفض الروح زاعقة فوق أضرحة الشهداء
والحزين الذي قتل الضعف والذل.. في رحلة النفي والابتلاء
أوجلان: أيها الحارس الجبلي.. الذي انتزع الشمس من كهفها ذات ليل
وراح يدحرجها خلفه.. كُرةً ضخمة من دخان
هو ذا مجد مثلك.. في صنع نسلك.. في مثل هذا الزمان
هو ذا قدر الحق.. ما بقيت راية العدل ساقطةً.. والجريمة صاحبة الصولجان
هكذا تحدث الشاعر محمد الفيتوري عن القائد الكردي عبد الله أوجلان عقب إلقاء القبض في عملية شاركت فيها المخابرات الأميركية والتركية والإسرائيلية في نيروبي بعدما أضطر لمغادرة سوريا إبان حكم الرئيس الراحل حافظ الأسد، ليرفع الحرج عنه بعد الضغوط التركية التي أوشكت أن تتحوّل لحرب ، بزعم إيواء دمشق لأوجلان والسماح لحزب العمال الكردستاني بالانطلاق من أراضيها وسهل البقاع اللبناني، وتوجه بداية لأوروبا وحاول الحصول على حق اللجوء السياسي، لكن دول أوروبا «المتحضرة» رفضت طلبه بعدما وصمته تركيا شريكتها في حلف «الناتو» بالإرهاب، بينما يستقبل نظام أردوغان آلاف الإرهابيين المنتمين لتنظيمات مارست العنف بشتى أنحاء المنطقة، ومنحتهم ملاذًا آمنًا، ودعمتهم وسلحتهم وأفسحت المجال ليطلقوا فضائيات تحريضية، بينما كانت ومازالت قضية أوجلان عادلة في الدفاع عن حقوق الأمة الكردية الممزقة بين أربع دول، أذاقتها أبشع ممارسات الاضطهاد والتعتيم والإقصاء.
ربما لم يتوقع والد أوجلان الفلاح البسيط أن ابنه الذي ولد عام 1948 بقرية « عمرلي » بمحافظة «شانلي أورفا» على الحدود التركية السورية وهو الأكبر بين سبعة إخوة، في بيئة يسودها الفقر والإحباط، سيصبح «أيقونة الكرد» وقائد المقاومة الذي استمد صلابته من وعورة جبال كردستان ومُدافعًا عن الهويّة القوميّة، بعد عقود من القهر والصهر للكورد منذ تأسيس الجمهورية التركية، فقد درس العلوم السياسية بجامعة أنقرة، وعاد لمدينة ديار بكر، وتأثر بالحركة القومية الكردية، ليؤسس «حزب العمال الكردستاني» الذي اشتهر اختصارًا بـPKK عام 1978، وانطلقت ملحمة النضال للإنبعاث، وتحرير شعب تخيل الطُغاة إمكانية دفنه في قبر أسمنتي كُتِبوا على شاهده «كردستان التي تتخيلونها مدفونة هنا»، لكن قضايا الشعوب تتحدى القمع مهما تعرض لسياسات الإنكار والمجازر التي جسّدت كيانًا ثوريًا يؤمن بحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وانطلاقة بدأت بمجموعة طلبة يؤمنون بالأخوة التاريخية المشتركة لشعوب المنطقة، وتحولت لحركة شعبية عارمة استطاعت إحياء "المظلومية الكردية" رغم تجزئتها في مستهل القرن العشرين، وكانت تعيش حقيقة مجتمعية راسخة، لكن الحزب خلق تاريخًا جديدًا لهوية وأعاد إحياء حضارة عريقة، ورسم مستقبل الشعب الكردي سعيًا لتحقيق حلمه التاريخي المشروع.
ألهم مشهد أوجلان عقب اختطافه ونقله لجزيرة امرالي مُكبّلاً أنصار القضية الكردية للتظاهر بشتى العواصم الأوروبية، وأمام سفارات تركيا وأميركا وإسرائيل، فالرجل في عيون شعبه والمتعاطفين مع مأساته التاريخية وطني مناضل لتحقيق حلم «كردستان الكبرى» وبينما يبيد الجيش التركي بدمٍ بارد المطالبين بحقوقهم التاريخية، يلتزم العالم «الديمقراطي» الصمت المتواطئ، ووضع أوجلان الحجز الانفرادي بجزيرة إمرالى في بحر مرمرة بتركيا منذ القبض عليه، ورغم محاكمته العسكرية التي كانت مهزلة قضي فيها بالإعدام، لكن الحكم خُفض للسجن مدى الحياة عندما ألغت تركيا، وبشكل مشروط عقوبة الإعدام فى أغسطس ٢٠٠٢، كإحدى الخطوات التي تمهد انضمامها للاتحاد الأوروبي.
وربما يثير البعض فزّاعة تقسيم المنطقة، رغم استقلالية إقليم «كردستان العراق» عمليًا، وطالما يمتلك الكرد كافة مقومات الأمة كاللغة والحضارة والتاريخ والجغرافيا والتقاليد الراسخة، فلماذا يُحرمون من العيش أحرارًا في أراضيهم، ويتمتّعون بحق تقرير المصير كما حدث لغيرهم من الشعوب؟! وعلى أدنى تقدير في بعض الحالات حيث يتباعد توزعهم الديموغرافي بأماكن تمركزهم كما هو الحال بسوريا يمكن منحهم الحكم الذاتي.
أما الغرب فطالما صمت عقودًا بانتهازية على جرائم تركيا لانتمائها للحلف الأطلسي، لكن محاولات «العثمانيين الجُدد» التستر بالقناع الغربي فُضحت خلال حكم أردوغان وحزبه الإخواني تبخر حلمها بعضوية الاتحاد الأوروبي، وارتدت لخرافة الخلافة التي أذاقت الدول العربية شتى صنوف الإهانات وسرقة مقدراتهم واستبدادهم، وتحطم الحلم الطوراني بيد إخوان «العدالة والتنمية» وراحت تراودهم أوهام إحياء «الإمبراطورية العثمانية» واتضحت أطماعهم في الدول العربية وصارت تُترجم بوضوح من خلال علاقة تركيا المراوغة والطامعة بثروات العرب، سواء بعقد الاتفاقيات ضدهم أو تحالفهم الإستراتيجي بالغرب وإسرائيل وانتهازيتهم الفجّة خلال الأزمة القطرية المحتدمة، ناهيك عن اقتطاع لواء الاسكندرونة العربي من سوريا.
التف حول أوجلان رفاقه في تأسيس الحزب ومنهم جميل بايك، دوران كالكان، ومصطفى قره الذين يروون ملحمة تدشين PKK ومؤتمره التأسيسي الذي عُقد في ديار بكر وتحديدًا بقرية «فيس» لمدة يومين باشتراك 23 شخصاً فقط، وأوضح خلال مقابلات أجراها مع وسائل الإعلام الكردية أن مسمى PKK كان باقتراح الشهيد محمد قره سونجور، وأكد كالكان ومصطفى قره أن تأسيس الحزب دشن حينذاك إضافة كبيرة للقوى التقدمية، وأن المؤتمر الذي عُقد بتاريخ 27 نوفمبر 1978 وبدأ نشاطه بمجموعة مؤلفة من ستة أشخاص فقط بأنقرة، لكنه حقق توسعًا هائلاً بتوجهه صوب كردستان، بحيث سطّر نصرًا مشهودًا بتاريخ نضال الشعب الكردي سعيًا للتحرر وإعادة طرح القضية للاهتمام الدولي بعد التعتيم المتعمد عليها.
بدأ الحزب من العدم بكلمتين «كردستان مستعمرة»، ويمكننا تسمية الظروف التي تشكلت وتطورت في الجزء الشمالي لكردستان بدايات السبعينات بأنها مرحلة ميلاد تنظيمية، استطاعت التقدم والوصول لكيان حزبي مكتمل سواء على الصعيد الأيديولوجي أو التنظيمي العملياتي.
وحسب شهادات رفاق أوجلان فسيكون الأمر أكثر موضوعية إذا اعتبرت مرحلة تطور أساسية، فالتراكم السياسي والقتالي والثقافي يجسد ويمهد عملية التأهيل، لمواجهة ممارسات القمع والإقصاء التي مارستها الأنظمة التركية المتعاقبة، وتفاوتت فقط في حجم تعصبها وشوفينيتها ووحشيتها بحق ملايين الكرد بتركيا، ناهيك عما عاناه أشقاؤهم بإيران والعراق وسوريا التي كانت تربط قيادتها صلة طيبة بالقائد أوجلان حتى هددتها تركيا.
تبقى في النهاية رؤية طرحها الأميركي ستيفن مانسفيلد مؤلف كتاب «معجزة الكرد» الأكثر مبيعًا، الذي يرى موقف بلاده متناقضًا فواشنطن ترفض اعتبار جماعة «الإخوان المسلمين» إرهابية رغم تاريخها الدموي المستمر، وتتهم أيقونة الحلم الكردي بالإرهاب رغم معاناته القمع والاضطهاد، منذ قيام البعث العراقي باستهدافهم بالأسلحة الكيماوية، حتى أصبحوا يسمون أنفسهم: «شعب بلا أصدقاء» ويعتبر مانسفيلد استمرار الكرد «معجزة» موضحًا أنهم رغم الحروب والقمع والشتات، أعادوا بناء مدنهم ببراعة، ففي المواقع التي أبادتها القنابل وشهدت مذابح، بُنيت الجامعات والمدارس وأرقى الفنادق مؤكدين صلابتهم، وفي نفس الوقت يشهد تاريخهم باعتدالهم وقبول الآخر من أديان ومذاهب شتى بالإضافة لكونهم مقاتلين أشداء وهذا أمر ماثل للعيان حاليًا بقتالهم لتنظيم «داعش» الإرهابي، وهزيمته في عدة مناطق بالعراق وسوريا.
وقد حان الوقت بعد 24 سنة من سجن أيقونة الكرد والأحرار في أن يحصل أوجلان على حريته وحرية شعبه كما يؤكده ويقوله أحرار المنطقة والعالم في الحملة الدولية المطالبة بحريته "حان وقت الحرية".