أحمد شيخو: خطورة الاحتلال والتدخل التركي في العراق والعالم العربي

تحدث الكاتب والباحث السياسي أحمد شيخو خلال مقال، حول مخاوف شعوب المنطقة بشأن الهجمات والتدخلات التركية في العراق والعالم العربي بعد سقوط قناعها في العقد الأخير وظهور حقيقة أهدافها ومشروعها التمددي والاحتلالي والتقسيمي للمجتمعات.

يثير التدخل والاحتلال التركي في العراق والعالم العربي والمنطقة حساسيات وتساؤلات ومخاوف مشروعة عدة، خصوصاً بعد سقوط القناع التركي في العقد الأخير بشكل واضح جداً لشعوب ودول المنطقة وظهور حقيقة أهدافها ومشروعها التمددي الاحتلالي والتقسيمي لمجتمعات ولشعوب المنطقة والدول العربية إضافة إلى التصريحات التركية المتكررة عن خطأ الاتفاقيات الدولية التي رسمت الحدود بناءً على ضعف تركيا وهزيمة حلفائها في الحرب العالمية الأولى وأولويات تشكل النظام الإقليمي والدولي حينها.

من الواضح أن السياسة التركية تستغل هشاشة الأوضاع والتوترات في بلدان المنطقة و بل من الأصح القول أن تركيا والسلطات الحاكمة فيها منذ عام ٢٠٠٢ من أردوغان وحزب العدالة والتنمية وخاصة بعد الاتفاق السلطوي مع حزب الحركة القومية التركية، هي التي تساهم في حالة الفوضى والضعف وحالات الانسداد وتعمق الأزمات إضافة إلى الدور الوظيفي السلبي في منع التسويات السياسية و حل الأزمات الموجودة خدمة للنظام العالمي المهيمن ومشاريعه ومصالحه.

يتميز العراق بأهمية كبيرة ومصيرية بالنسبة للعرب والكرد والفرس والأتراك وغيرهم فهي التي تجسد شكل العلاقة بينهم، وعليه لمعظم المنطقة ودولها ولحالة تبلور وتشكل أية معادلات إقليمية ودولية. وكما كانت هيكلية العراق بالشكل والحدود الموجودة المرسومة من قبل بريطانيا في مؤتمر القاهرة ١٩٢١ نقطة الفصل والبداية في تشكيل معظم الدول العربية الأخرى و تطبيق حالة الإبادة الفريدة على الشعب الكردي والتحكم بكل مفاصل الدولة التركية و التمهيد للثنائية الاسلاموية المتصارعة (السنة والشيعة)، فإنها اليوم ومرة أخرى وبالتفاعلات الكثيرة بين مختلف القوى على أرضها من كافة الأطراف و بالجيوسياسية و الجيوثقافية التاريخية والحاضرة التي تتميز بها العراق فإنها قادرة على التأثير المفصلي على مستقبل المنطقة وشعوبها.

ومن معرفة القوى الدولية والإقليمية وكذلك شعوب المنطقة بالتداعيات والتأثيرات التي ستكون حاضرة بقوة في المشهد السياسي والأمني والاقتصادي والتجاري والثقافي وكذلك في أمن الطاقة العالمي وارتباطها بالمشهد العراقي، فإن العديد منها يتفاعل مع الساحة العراقية سلباً أو إيجاباً، حتى أصبح معيار النفوذ والتأثير وكذلك الهيمنة الإقليمية متعلقة بقوة الحضور والتأثير في الساحة العراقية وما جاورها من سوريا والخليج وتركيا وإيران.

يمكننا أن نعتبر تركيا الدولة والسلطة من أهم القوى الإقليمية التي تلهث وراء احتلال العراق واستغلال مواردها والتحكم بها وخاصة بالشمال كمدينتي الموصل وكركوك وإقليم كردستان العراق والمركز بغداد، مع وجود التدخلات الأخرى وبالصيغ المختلفة، ولكن أخطر تهديد على وحدة العراق وسيادتها وسلامتها هو مشروع العثمانية الجديدة(الصهيوطورانية) أي الاحتلال التركي الذي يتجسد و يتوزع في عدة جوانب مهمة و خطيرة تهدد الأمن والاستقرار الاستراتيجي الداخلي العراقي وأيضاً تهدد الأمن القومي العربي وأمن واستقرار المنطقة والعالم منها:

1- الجانب العسكري والأمني والاستخباراتي:

 تتدخل تركيا في الأراضي العراقية منذ عام ١٩٨٣  وكان التدخل مرحلي ومؤقت عبر عمليات عسكرية وثم كانت القوات التركية تنسحب إلى الداخل التركي، ولكن هذا التدخل وخاصة بعد سيطرة حزب الديمقراطي الكردستاني على قسم من إقليم كردستان العراق بعد التسعينات و تواطئه مع الدولة والجيش التركي تحول إلى قواعد ثابتة ونقاط تمركز وصل عددها لحوالي (١٠٠) حالياً، مع تمركز حوالي ٣٥ ألف عنصر من الجيش التركي في مناطق سيطرة حزب الديمقراطي الكردستاني، علاوة على القواعد والأماكن العلنية والمخفية للاستخبارات التركية (  (MITفي كامل إقليم كردستان وخارجه وتحرك الاستخبارات التركية وتشكيلها خلايا عمل ودعم لها من المتواطئين والمجندين بالوسائل المادية والعينية المختلفة لتنفيذ عمليات اغتيال بحق النشطاء والسياسيين والأكاديميين الذين يعارضون السياسات التركية الاحتلالية، كما أن استهداف تركيا لمخيم مخمور للاجئين ولقضاء شنكال الذي خرج لتوه من الإبادة الجماعية على يد داعش، إنما يؤكد حالة العداء التركي واستهدافها للاستقرار والأمن والسلام في العراق والإقليم وأيضاً يؤكد الرغبة التركية في الانتقام من القوى الشعبية والمجتمعية التي هزمت داعش، مع العلاقة المتينة و العضوية بين الاستخبارات التركية وداعش في العراق وسوريا وغيرها ودعم تركيا لخلايا داعش الموجودة في العراق وسوريا وفي العديد من البلدان العربية في شمال أفريقيا والقرن الأفريقي، مع العمل المستمر من قبل تركيا لتشكيل كتائب تركمانية في الموصل وكركوك وهولير(أربيل) وتلعفر تكون ذراع عسكرية لتركيا واستخدام القاعدة التركية زليكان في بعشيقة للتواصل مع داعش والكتائب التركمانية وتدريبهم وتسليحهم وجمع الاستخبارات عن كل القوى ومؤسسات الدولة العراقية وتحركاتها وانتظار اللحظة المناسبة والحاسمة لتكون هذه القاعدة محطة ونقطة انطلاقة وتوسع للاحتلال التركي للسيطرة على كركوك والموصل وشنكال.

2- الجانب الاقتصادي:

علي الرغم أن الميزان التجاري هو في صالح تركيا، فالعراق معتمد بشكل كبير على تركيا المحتلة للأراضي العراقية في الجانب الاقتصادي، فمثلاً في النصف الأول من عام ٢٠٢١ كان حجم الصادرات التركية إلى العراق حوالي ٦ مليار بينما الصادرات العراقية إلى تركيا بلغت 492 مليون دولار فقط و معظمها مواد نفطية. ومن يبحث في الأسواق وفي القطاعات المختلفة والبضائع الموجودة في العراق، يلاحظ الحضور الطاغي للشركات والمواد التركية بشكل كبير وملفت ومتضخم، رغم التدني  وغياب  الكثير من المعاير النموذجية والصحية التي يجب أن تكون موجودة في التصنيع والتعامل والسلوك التجاري والمواد والبضائع التركية المستوردة، مع وجود عشرات الشركات المتخصصة في قطاعات البناء والإعمار والصناعات الغذائية والدوائية والكهربائية والألبسة والتقنيات الإلكترونية، والتي تشغل حيزاً في مجمل النشاط التجاري والاقتصادي في الإقليم وعموم العراق، فضلاً عن المصارف التركية وشركات تحويل الأموال، ولاشك أن هذا الاحتلال التركي الاقتصادي لم يكن يحصل لولا السياسات الاقتصادية اللاوطنية الموجودة في الإقليم والمركز والتي تخدم أشخاص وأحزاب وطبقة معينة مع أن للبضائع التركية آثار سلبية كبيرة ومدمرة على الصناعات العراقية ومختلف القطاعات، وقد تسبب ويتسبب بعدم نمو وتطور الزراعات و الصناعات المحلية.

3- المياه والأمن المائي:

 أقامت تركيا وبدون تنسيق مع العراق وسوريا العشرات من السدود على نهري دجلة والفرات، الذين يشكلان شرياني الحياة في سوريا والعراق وخاصة مع حالات ضعف الحكومات و الهشاشة الموجودة في المشهد الإقليمي ومشاريع الاحتلال التركي في ضرب الاستقرار المجتمعي في المناطق التي لا تخضع لها وحالياً تسببت السدود التركية والقطع المستمر للمياه وعدم إرسال حصتي العراق وسوريا من المياه بتهديد حياة ملايين الناس و أصبح الموت وفقدان أسباب الحياة من تداعيات السدود وحجز المياه الذي تقوم به تركيا،  و لعل حالة الأهوار العراقية وفقدان مئات الآلاف من أشجار النخيل وغيرها و هجرة الناس منها باتجاه المدن دلالة على تأثيرات الفعل السلبي والتخريبي لقطع تركيا للمياه على العراق وسوريا. وكذلك ما تفعله تركيا مع مرتزقتها في القطع المستمر للمياه عن مدينة الحسكة وأريافها في شمال وشرق سوريا، وخفض المتعمد لمنسوب نهر الفرات وبالتأكيد فإن عملية قطع المياه سياسية تركية عدائية ممنهجة لضرب القطاع الزراعي وإيقاف توليد الطاقة الكهربائية وبالتالي إضعاف القطاعات الصناعية والإنتاجية و التي تعمل على الطاقة الكهربائية وبالتالي يمكننا القول أن تركيا وسلوكها تؤدي لتصفية أسباب الحياة والوجود في العراق وسوريا، ومن الممكن والوارد أن هذا السلوك التركي العدائي في مجال المياه وتهديدها الأمن المائي وعدم محاسبتها من قبل المنظومة والمجتمع الدولي شجع دول أخرى في الشرق الأوسط والعالم كأثيوبيا في التمادي الحاصل في أزمة سد النهضة مع السودان ومصر .

استطاعت تركيا وبتعاملها الاستراتيجي السلبي والتخريبي مع المجال الزراعي والتجاري العراقي وضخها للبضائع التركية ولغايات سياسية وأهداف تحكمية، إضافة إلى السياسات و السلوكيات العراقية السلبية في عدم الإنتاج والتصنيع والاستيراد في معظم الأحيان، في أن يتم ضرب القطاع الزراعة والانتاجي بمقتلة  كبيرة، حتى أصبح ساكن القرية في الإقليم ووسط العراق وغربه وجنوبه لا يزرع ولا يربي ولا يتصرف وفق المنطق والسلوك الإنتاجي والذاتي المحلي بل كل همه أن يحصل على البضائع التركية  والإيرانية المستوردة وينتظرهم في أن يمدوه طوال الوقت.

4- الطاقة والنفط:

 تسيطر الدولة التركية على جانب كبير من قطاع الطاقة والنفط والغاز وخاصة في الإقليم وهي تشتري النفط والطاقة بأسعار رمزية غير متوفرة في أي مكان في العالم من حزب الديمقراطي الكردستاني وبيت البرزاني، وفق اتفاقات نفطية تمتد لعشرات السنين ومنها ٥٠ سنة، وذلك من دون أخذ رأي و توافق برلمان الإقليم أو الحكومة المركزية بالاعتبار على هـذه العقود وعمليات البيع الأحادية لتركيا والتي لا يستفيد منها سوى عائلة البرزاني وبعض المتنفذين من جماعتهم دون شعب الإقليم أو الشعب العراقي بالكامل رغم كل المعاناة المادية لدى أبناء الإقليم والعراق وظروفهم الصعبة.

ووفقاً لبعض المصادر، فإن الشركات التركية لها حصة الأسد في نفط إقليم كردستان، حيث تملك شركة "كنال إنيرجي" التركية البريطانية حصصاً، وبنسب مختلفة، في البلوكات النفطية في الإقليم حسب بعض البيانات، فهي تملك 25% في بلوك طاوكي، و40% في بلوك بيربهر، و40% في بلوك دهوك، و44% بلوك بناوي، و44% في بلوك طقطق، و75% في بلوك ميران، و60% في بلوك جيا سورخ. بالإضافة إلى الشركات التركية الأخرى الموجودة تحت الأسماء المختلفة وبالتعاون مع عدة دول منها أمريكا والإمارات وحتى بعض الشركات الإيرانية وبشكل مخفي، رغم حالات الاستهداف الأخيرة لأجل إيصال بعض الرسائل، وهنالك الكثير من المحاولات التركية في تمكين شركاتها ووكلائها في التواجد في المناطق الغربية من العراق ولأسباب اقتصادية وأمنية مختلفة. مع العلم أن الطاقة والنفط خط أحمر لا تمسح أمريكا لأحد بأن يتجاوزها، كما حصل مع عقد قيادة الإقليم لاتفاقية الطاقة مع روسيا لتعمل الشركات الروسية للغاز والطاقة في حقول كركوك التي كانت تسيطر عليها حزب الديمقراطي الكردستاني قبل ١٦ أكتوبر عام ٢٠١٧، فكان الرد الأمريكي بأن تم دفع الحشد الشعبي ومن ورائها تركيا وإيران في السيطرة على كركوك وأخذ حقول الغاز التي كان من المفروض أن يستثمرها شركات غاز روسية. والأن تحاول تركيا ومع الأزمة الأوكرانية وتحديات أمن الطاقة في أن تسيطر على حقول الغاز والنفط في الإقليم وتقدم نفسها للاتحاد الأوربي والعالم الغربي بأن لديها موارد غازية بديلة للغاز الروسي كما تفعل مع خطوط الغاز الأذربيجانية، إضافة إلى استفادتها من وضع العقوبات على إيران وشراء الطاقة منها بأسعار قليلة ومساعدة إيران في الالتفاف على العقوبات الاقتصادية المفروضة من قبل أمريكا والقوي الغربية كما ظهر مع قضية رضا ظراب في أمريكا منذ سنوات.

5- الجانب التعليمي والثقافي والإعلامي:  

تتواجد العديد من المؤسسات التعليمية التابعة لتركيا في الإقليم والعراق من دور الحضانة إلى المدارس والمعاهد حتى الجامعات، وسابقاً كان بعضها تابع لفتح الله غولن الشريك السابق لأردوغان ولكن بعد محاولة الانقلاب الفاشلة والمزعومة في تركيا بادرت الحكومة التركية مع بيت البرزاني في وضع أيديهم على بعضها كجامعة جيهان في أربيل وغيرها من المدارس والمعاهد.

والملاحظ وجود مساحة للإعلام التركي الرسمي والخاص للعمل في العراق وخاصة في إقليم كردستان ومدن كركوك وبغداد والموصل رغم حمل هذه الإعلام لأجندات معادية لمصالح الشعب العراقي وكذلك للشعب الكردي ولنضال الحرية الذي يخوضه الكرد في كافة أجزاء كردستان الأربعة. وحتى أن الأشخاص والأماكن التي لا يستطيع الإعلام العراقي والكردي الوصول إليه، يتم إيصال الإعلام التركي وفق التنسيق المخابراتي بين جهاز الباراستن الاستخباراتي لحزب الديمقراطي الكردستاني والميت التركي والجبهة التركمانية وخلايا داعش. كم أن القنوات الإعلامية والمجلات والتلفزيونات في الإقليم والعراق تأخذ الأفلام والمسلسلات والأغاني التركية والبعيدة عن الثقافة العربية والكردية بنهم وشغف شديد وتقدمها للمواطن العراقي والعربي وذلك كترجمة للاتفاقات التركية المعقودة مع حكومة الإقليم وبعض المتنفذين التابعين لها ضمن حكومات بغداد. مع العلم أن نفس الساحة والمجال لا يتم إعطائها للإعلام العربي والكردي والوطني العراقي، مع قيام تركيا بتمويل بعض القنوات التحريضية ضد استقرار العراق وكذلك عشرات الصحف والمجلات ومراكز البحث والمواقع الإلكترونية التي تبث الفتنة والفرقة والأخبار الكاذبة في العراق.

مع الأسف لا يرتقي الرد الفعل الرسمي العراقي سواء من حكومة الإقليم أو حكومة المركز في بغداد أو حتى من الأحزاب والنخبة السياسية إلى حجم التدخلات التركية والأثار السلبية لها ولا يؤثر في مسار الأحداث والتجاوزات التركية، رغم البيانات والإدانات واستدعاءات السفير التركي في بغداد من قبل الخارجية التركية للاعتراض والاحتجاج والإدانة، مع وجود حالة من الغضب والرفض الشعبي والمجتمعي والشبابي للتدخلات والاحتلال التركي وذلك لعدة أسباب:

1-  ضعف الإرادة الوطنية الحرة والقرار السيادي المستقل، نتيجة لغياب الديمقراطية و تفشي حالات الفساد و سيادة طبقة و منظومة سياسية همها المناصب والكراسي و المنافع المادية الشخصية والفئوية و هي التي لا تملك قرارها الذاتي والخاص بل أن أغلب القوى السياسية في الساحة العراقية تحمل أولويات وأجندات ليست عراقية بالدرجة الأول وهي مستعدة للتوافق مع كافة الأطراف وحتى أدوات الاحتلال المحلية لأجل الوصول لكراسي الحكم واستلام الوزارات ومؤسسات الدولة، وهنا تكون صمت وتواطؤ، بل وخيانة للشعب العراقي ومصالحه ووحدة وسلامة أراضيه.

2-  تواطؤ بعض القوى السياسية المتنفذة في الخارطة السياسية العراقية مع تركيا وبشكل فاضح كحزب الديمقراطي الكردستاني وعائلة البرزاني، رغم كل حالة العداء والحرب التركية المستمرة على الشعب الكردي وكذلك الجبهة التركمانية وبعض جماعات الإسلام السياسي السنية وخاصة التيارات والأحزاب ذات الميول الإخوانية التي تحولت لأدوات تركية تنفيذية في جسد الشعب العربي والعراقي بعربه وكرده. وهذه القوى تشرعن الاحتلال التركي وتبرره وتساعده وتمنع أي سياق ديمقراطي وطني عراقي من القيام بواجبه الوطني في مقاومة المحتل التركي وتدخلاته المختلفة.

3-  توافق التدخلات التركية والإيرانية على عدم وجود عراق قوي وحر وديمقراطي وعلى بعض الجوانب الأخرى المتعلقة بالشعب الكردي والمحاولات المستمرة لإضعاف نفوذهم ومكاسبهم، رغم وجود الكثير من نقاط الاختلاف بين تركيا وإيران والمنافسة بينهم للسيطرة على العراق والتحكم بموارده وسوقه واقتصاده.

4-  ضعف الحضور والتأثير العربي الوازن، وانشغال معظم الدول العربية المحورية بقضاياها الداخلية، مع عدم وجود رؤية عربية موحدة وفهم معمق تجاه المشهد العراقي والاحتلال التركي والتدخلات الإيرانية فيها، رغم الكثير من الكلام والبيانات التي لا تفيد بشيء ولا تغني عن جوع. مع وجود رغبة أمريكية وإسرائيلية وتركية وإيرانية في إبعاد الحضور والتأثير العربي عن الساحة العراقية، رغم تغير ذلك نسبياً في السنتين الأخيرتين.

5-  السماح الدولي وعلى رأسها الأمريكي والأوربي بالتدخلات التركية، حيث أن المجال الجوي العراقي مازال بيد أمريكا والتحالف الدولي لمحاربة داعش وهم من يساعدون تركيا في عملياتها الاحتلالية ويمدونها بالذخائر والأسلحة حتى اليوم، ويتغاضون أو يشاركون تركيا حتى في استعمالها الأسلحة المحظورة كالكيميائية و النووية التكتيكية ضد مقاتلي الكريلا و استهدافهم المدنيين العرب والكرد في إقليم كردستان العراق كما حصل مؤخراً في مجزرة برخ في قضاء زاخو بمحافظة دهوك وقبلها في مناطق متينا وجبال قنديل، حيث استشهد حوالي ١٥٠ شخص مدني من الأطفال والنساء والشيوخ نتيجة القصف الاستهدافات التركية في غضون السنوات الأخيرة.

6- أخذ العراق ساحة للاختلافات وتوافقات القوى العالمية والإقليمية والمشاريع المتصارعة والرسائل المتبادلة بينهم، كما حصل في قبول أمريكا بمرشح الإطار التنسيقي محمد شياح السوداني مقابل قبول إيران لترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل.

والمفارقة أن بعض القوى العراقية تتحدث عن التواجد الأمريكي الذي يقال إنه بطلب من الحكومة العراقية وتصفه بالاحتلال والمحتل وتعمل ضده فعلياً وتقصفه بين الفينة والأخرى، بينما نفس القوى لا تتفاعل بنفس الفهم والنظرة والمستوى مع الاحتلال التركي رغم أن تركيا تحتل علنية وتحاول ضم شمال العراق أولاً ثم كامل العراق إن أمكن إلى تركيا ضمن مفهوم الميثاق الملي ومشروع العثمانية الجديدة. وكما أن بعض القوى العراقية تتكلم عن إسرائيل والعداء لها ورفضها احتمالات تواجدها في العراق وتجريم التطبيع معها وهي في الوقت نفسه لا تنظر إلى الاحتلال التركي كمشكلة وقضية مصيرية بنفس المستوى ويجب مقاومتها على كافة الأصعدة، بل أنها تتوافق معهم في توافقات السلطة والنفوذ في الحكومة والدولة العراقية.

كما أن الطامّة الكبرى هي أن التيارات القومية الكردية والعربية في المنطقة وخاصة في العراق والذين يتشدقون بالعروبة والكردياتية المستقلة هم في الوقت نفسه توابع وأدوات لقوى إقليمية كتركيا وإيران وإسرائيل، بسبب ضعف الرؤية وقصر النظر وعدم إيمانهم وثقتهم بأنفسهم وشعوبهم ومجتمعاتهم واعتمادهم على الخارج. كما أن الكثير أو مجمل القوى اليسارية أصابها الضعف والخمول إلى درجة فقدان التأثير والحضور، إضافة لقوى الإسلام السياسي التي تمثل حالة وظيفية وانحراف واعتداء على قيم وأخلاقيات الإسلام والدين الحنيف. وكل ذلك مع الإصرار على القالبية والدوغمائية لدى التوجهات الدينية والعلمانية وعدم مراجعة الذات والأفكار التي تحتاج التجديد والتغيير وفق متطلبات ومعطيات وعلوم العصر، وبالتالي الساحة السياسية مشلولة وليس هناك رؤية وطنية سيادية من المحتل التركي والتدخلات الأخرى.

من الطبيعي أنّ هذا الوضع العراقي المتدهور وغير المستقر وكلَّ هذا الثقل العسكري والاستخباراتي والاقتصادي التركي يمتد إلى المشهد السياسي، بصورة مباشرة وغير مباشرة، ومن ثم يوفر لأنقرة ولغيرها من القوى الخارجية هامشاً كبيراً للتأثير في صياغة المعادلات السياسية العراقية، وعلى نطاق أوسع المعادلات الإقليمية. وقد لاحت معالم ذلك التأثير وملامحه بدرجة أكبر خلال الشهور القلائل الماضية، وخصوصاً ما يتعلق بحراك الانتخابات البرلمانية وتشكيل الحكومة العراقية الجديدة، وحتى في اختيارات الرؤساء الثلاثة،  فجولات هاكان فيدان مستشار ورئيس الاستخبارات التركية ولقاءاته بعدد من القوى السياسية العراقية في بغداد والإقليم وفي شكل وصيغة تحمل طابع التحدي والاستفزاز والتجاوز على الأعراف والقواعد الدولية للتعامل بين الدول ذات السيادة يحمل دلالات كثيرة عن الحضور والنفوذ والتدخل التركي، ويقال حتى أن التوافق الأخير ومحاولات تشكيل الحكومة العراقية ورضى حزب الديمقراطي الكردستاني وتحالف السيادة ومشاركتهم في تحالف إدارة الدولة كان بعد الأوامر التي تم إصدارها لهم من قبل هاكان فيدان لحفظ مصالح تركيا ودوام احتلالها ونفوذها في العراق، ، و من يريد التأكد من ذلك عليه البحث في أسباب التمكين والثقل التركي النوعي في المشهد العراقي وبشكل خاص في أسباب سقوط الموصل بيد داعش والقنصل التركي لم يغادر المدينة إلا بعد دخول داعش بأيام.

وتبقى القضية الجوهرية والمهمة، هل يستطيع العراق كبح جماح الاندفاع التوسعي التركي العثماني تجاهه؟ وماذا عن تبعاته وآثاره وتداعياته السلبية المستقبلية على أمن واستقرار العراق والمنطقة والعلم؟ وثمة تساؤلات أخرى ملحّة أيضاً تحمل بين طياتها وثناياها هواجس مقلق ومخاوف حقيقية بوحدة العراق وسيادته وبأمن الحدود وأمن المياه وأمن الطاقة جراء الممارسات التركية وتبعات ذلك على المنطقة وعودة داعش والقاعدة، وهل يمكن للعراق ممارسة الضغوط  السياسية  والدبلوماسية و الاقتصادية والعسكرية اللازمة لردع تركيا و مواجهة التدخل والاحتلال التركي الذي يتلون بألف لون ويتدخل في كافة مجالات الحياة في العراق، و من المفيد السؤال هل كان بالإمكان مثلاً قطع العلاقات التجارية على الأقل مع تركيا مع امتلاك الطرف العراقي الأموال اللازمة لشراء بدائل المنتجات التركية من مختلف الدول العربية ودول المنطقة والعالم، مع قصف وقتل تركيا للمدنيين العراقيين الزوار في دهوك؟ لكن كيف يمكن ذلك والمنافذ البرية التركية هي مع بيت البرزاني ومناطق سيطرة حزب الديمقراطي الكردستاني وهم على علاقة وتبعية كبيرة وليس هناك رغبة منهم في إبداء أي موقف معارض حقيق تجاه تركيا وممارساتها وقتلها المدنيين.

بالطبع يستطيع الشعب والحكومة العراقية وبكافة مكوناتهم الأثنية والدينية من الوقوف في وجه الاحتلال التركي وردعه وتحجيم دوره وإخراجه من الأراضي العراقية، ويتطلب ذلك:

1-  تحقيق الديمقراطية في العراق والتخلص من منظومة الفساد والتقسيم والتبعية الموجودة في كافة المجالات الحياتية، وبناء المؤسسات الوطنية الديمقراطية العراقية القادرة على التعبير والتجسيد للمصالح وأولويات الشعب العراقي.

2-  تحجيم كافة التدخلات الخارجية والسعي لبناء سياقات ذاتية مجتمعية ومسارات جديدة وإرادة وطنية عراقية حرة وديمقراطية تتبنى التعايش المشترك وأخوة الشعوب والمجتمع الديمقراطي وحرية المرأة وريادتها مع الشباب لجهود التغيير وبناء الحياة.

3-   فهم و رؤية الأهداف الحقيقية للاحتلال التركي ورغبته في تطبيق مشروع العثمانية الجديدة وإرجاع العراق إلى قبل اتفاقيتي لوزان١٩٢٣ وأنقرة ١٩٢١، واللتان رسمتا الحدود التركية العراقية الحالية والسيطرة على موارد وثروات العراق من شماله لجنوبه، وعدم الوقوع تحت تأثير البروبوغاندا والإعلام التركي المضلل والمخادع الذي يحاول إخفاء حقيقة احتلالها وأهدافها تحت حجة الأمن القومي التركي والإرهاب مع أن تركيا دولة تمارس الإرهاب وتدعمه وتحميه كما في مناطق الاحتلال التركي وتواجد ما يسمى بخلفاء وولاة الدواعش فيها.

4-  معرفة القوى المتواطئة مع الاحتلال وفضحهم والتشهير بهم والضغط عليهم لترك نهج الخيانة والعمالة للمحتل التركي ومحاسبتهم على ذلك.

5-  فهم لحقيقة النضال المجتمعي الديمقراطي والحر ضد الدولة التركية الذي يقوده حزب العمال الكردستاني وكذلك مقاومة وبسالة قوات الدفاع الشعبي (الكريلا) الذين يقاومون الاحتلال التركي ويدافعون عن الشعب الكردي والشعب العراقي وشعوب وبلدان المنطقة ويشكلون السد المنيع أمام تمدد الاحتلال والتوسع التركي في العراق.

6- بناء تحالف استراتيجي ديمقراطي بين الشعبين العربي والكردي في العراق وخارجها وكذلك تطوير علاقات الشعبين مع كافة الشعوب والدول والقوى المجتمعية والانفتاح على المجتمع الدولي الشعبي والرسمي والرأي العام الحر والديمقراطي ومخاطبتهم لعدم النظر من العدسة التركية للشعب الكردي و لشعوب المنطقة والاحتلالات التركية ولمختلف قضايا المنطقة.

7- استخدام كافة الوسائل ضد الاحتلال التركي من القوى الناعمة والصلبة والذكية، وعدم ترك فجوات يتسلل منها العثمانية لمجتمعاتنا وشعوبنا.

8- وضع منظومة استراتيجية شاملة للأمن القومي العربي من قبل القوى والشعوب والدول العربية المحورية وبالتعاون مع شعوب المنطقة المستهدفة من قبل دولة الاحتلال التركية كالشعب الكردي وقواه الحرة والديمقراطية والمجتمعية وغيره لتقوية الجبهة الداخلية في المنطقة عبر الحلول الديمقراطية للقضايا العالقة وبناء مشروع نهضوي مجتمعي ديمقراطي ذاتي للمنطقة وشعوبها.

وعليه، يبقى إنقاذ العراق والمنطقة من الاحتلال التركي والتدخلات الخارجية المختلفة من أهم المهام المصيرية للمجتمعات والشعوب في العراق وكذلك للشعب العربي والكردي ولشعوب ودول المنطقة، وهي البداية لتبلور مشهد سياسي واستراتيجي جديد يخدم المنطقة وشعوبها،  وستكون الصيغة والهيكلية التي ستكون عليها العراق في المعادلات والهيكلية الإقليمية الجديدة القادمة هي البداية والفصل لتشكيل كافة بلدان ودول المنطقة، ولاشك أن تعاون وتضافر الجهود المشتركة والوحدة الديمقراطية والتكامل الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والأمني بين شعوب المنطقة ستجعل القوى العالمية والإقليمية المهيمنة تأخذ إرادة ومصالح مجتمعات وشعوب المنطقة بعين الاعتبار ولابد أن تكون الإرادة الحرة و الديمقراطية  للمجتمعات والشعوب ومصالحهم هي المقياس والمبدأ وعندها فقط ستتحقق الاستقرار والأمن والسلام الحقيقي وسنكون المنطقة وشعوبها ودولها قادرة على مواجهة كافة التحديات الخارجية والداخلية مهما كانت.