كري صور: حصن المقاومة – الجزء الثاني

كان كل من بوطان، سرهلدان وزنارين قادة المقاومة ضد الفاشية التركية في قلعة المقاومة في كري صور، حيث قاوموا بروح أوجلانية وبسالة منقطعة النظير.

نقدم لكم الجزء الثاني من أحداث مقاومة كري صور التي دامت لـ 80 يوماً ولتي يرويها الأبطال مزكين دالاهو، آرمانج سمكو وتكوشيم دفريم.

كما ذكرنا في الجزء الأول، وجهت قوات الكريلا ضربات موجعة لقوات الاحتلال التركي في تل سليمان مما أسفر عن وقوع قتلى وجرحى في صفوف الجيش التركي وتمكن المقاتلون الثلاث من مغادرة تل سليمان والتوجه نحو كري صور (التل الأحمر بالعربية) دون أي خسائر. الاحتلال التركي ونتيجة للخسائر التي تكبدها في المنطقة تردد كثيراً في التقدم من كري سبي (التلة البيضاء) إلى كري صور وهو ما استغرق أسبوع. وفي محيط تل سليمان تكبد الاحتلال خسائر كبيرة عبر استخدام المتفجرات وهو ما أبطأ تقدم الاحتلال بشكل كبير.

المقاتلون المتواجدون في كري صور وعملية التمركز

بعد خروجهم من تل سليمان توجهوا نحو التل الرابع. كري سبي بعيد عن التل الرابع. في تلك الفترة كان مزكين، سرهلدان وأوزكور متواجدين على رأس التل في حين كان كل من تكوشين وآركيش وزنارين متواجدين في أسفل التل، بينما كان القائد بوطان متمركزاً في وسط المجموعتين ليستطيع إداراتهما. ونظراً لصغر عمر دلال فهي كانت متواجدة بالقرب من بوطان وفي كل ساحة كان هنالك قناصون وعمليات انتقامية. أما المقاتلان باز وآرمانج كانا متواجدان قرب بوابة جارجلا. هذا التوزع كانت تطرأ عليه تغييرات مستمرة حسب الضرورات اللحظية في ساحة المعركة. في ذلك الوقت كان عدد المقاتلين المتواجدين هناك 10 مقاتلي كريلا. القائد بوطان منذ انضمامه وحتة تاريخ استشهاده كان متواجداً بشكل دائم في ساحة آفاشين وطاف جميع أرجاء المنطقة وتدرب على القتال وفنون القيادة في أحضان طبيعة تلك المنطقة. كان معروفاً بتواضعه وبسالته واستعداده الدائم للتضحية. القائد بوطان كان نموذجاً للقائد البطل والإنسان الذي يكون بوطان قائده فهو محظوظ جداً. ويعود الفضل باستمرار المقاومة لفترة طويلة وعدم حدوث أي استسلام او انكسار في المنطقة بالقدر الأكبر للقائد بوطان.

الرفيق سرهلدان، قائد الوحدة في منطقة بسا في ساحات تل سليمان، قرتال وكري صور، كان على دراية واسعة بجغرافية المنطقة وساهم بشكل كبير في حفر الأنفاق وإعدادها للحرب في قرتال وكري صور. كان يكد ويحفر أنفاقاً طويلة لوحده. الرفيق سرهلدان كان يتمتع ببعد المظر وروح المسؤولية ومصدر إلهام لجميع رفاقه. كانت أنفاق كري صور تزدهر على أنغام قصائده واغانيه التي كان يرددها. سرهلدان كان قائداً دائم التواجد في التلال الوعرة والقاسية التي يصعب العيش فيها وفي الساحات القاسية التي تحتاج لقوة تحمل كبيرة. كان متواضعاً ومرهف الحس رغم كل الظروف الصعبة والمسؤوليات الكبيرة التي كانت على عاتقه. كان بارعاً وموهوباً في تنظيم القصائد وكتابتها وقراءتها.

كانت زنارين قائدة وحدة المقاتلات الكريلا. قائدة شابة يحترمها الجميع من رفاقها ولعبت دوراً محورياً في مقاومة كري صور ضد الفاشية التركية. رغم مرور وقت قصير على دخولها المعارك، إلا أنها عملت في أصعب المناطق وأكثرها قسوة وخاصة في كري صور وأصبحت قائدة. بوطان وسرهلدان وزنارين كانوا قادة هذه المقاومة العظيمة. هم من حولوا كري صور لقلعة وحصن أوقف زحف العدو ورده على أعقابه. قاوموا ببطولة وروح أوجلانية. هؤلاء كانوا قادة هذه المقاومة. جميعهم كانوا مختارين وكانوا يقاومون كقادة. تكوشين وأوزكور كانوا ينفذون عمليات انتقامية، بينما آرمانج، آركيش، مزكين، وباز قناصة. جميع المتواجدين كانوا خبراء ومحترفين. كان هنالك انسجام وتناغم بين الجميع وخبرة واسعة في المقاومة والنضال. وكل مجموعة كانت موزعة بشكل تحتوي متخصصاً في نوع معين من الأسلحة للتعامل مع الوضع.\

المعركة الاولى التي نشبت كانت تمثل تجربة جديدة لقوات الكريلا في خوض المعارك بالانفاق بكري صور. على سبيل المثال: عندما كان الاحتلال التركي يستخدم أسلحة معينة أو يتبع تكتيكاً عسكرياً محدداً، كانت قوات الكريلا ترد على الهجوم وتعمل على ابتكار تكتيكات جديدة لمواجهتها.

الاحتلال التركي كان يتقدم عبر الأراضي وبأعداد كبيرة

لم تكن قوات الكريلا تسمح لقوات الاحتلال التركي بالتقدم بسهولة نحو التل. كانوا يسمعون أصوات جنود الاحتلال التركي على التل الثاني ولكنهم كانوا غير قادرين على رؤية موقعهم بشكل دقيق ولم يكونوا على دراية بأن أعداد جنود الاحتلال التركي كبيرة، حيث كان الجنود متوزعين على رؤوس التلال أيضاً. وفي تلك الليلة قامت طائرات الاحتلال التركي بإنزال الجنود على التل الرابع. قوات الكريلا من جانبها كانت تستهدف قوات الاحتلال التركي بشكل دائم باستخدام رشاشات الدوشكا الثقيلة وهي كانت تعيق الاحتلال التركي وتمنع من التقدم عبر البوابة الرئيسية، خاصة وأن الدوشكا كان مرنة وكانت تتميز بقابلية المناورة وتغيير الاتجاهات بسهولة.

مزكين يصطاد جنود الاحتلال التركي

بالتزامن مع تحركات العدو على التل الثاني، اقترح مزكين تنفيذ عمليات قنص ضد جنود العدو. كانت المسافة بينه وبين جنود العدو تبلغ 500 متر. في الثاني والعشرين والثالث والعشرين من حزيران، نفذ مزكين عمليتي قنص. الاحتلال التركي رد بمهاجمة المنطقة بالقنابل والرصاص. في اليوم التالي، شن مزكين هجوماً على مجموعة من الجنود أثناء بناء إحدى التحصينات. ارتدى مزكين لباسه المموه وخرج لقنص جنود العدو. أطلق رصاصتين إحداها قتلت جندياً والاخرى أصابت جندياً.

بعد هذه العملية، اطلق الاحتلال التركي جهازاً صغيراً باتجاه النفق. كان الجهاز يصدر صوتاً يشبه صوت الذبابة ويدعو للاستسلام. كان جهازاً غريباً جداً.

معركة البداية

في الثالث والعشرين من حزيران العام الفائت، تقدم الاحتلال التركي في ساعات الصباح نحو تل البداية المرتفع. وفي اليوم التالي كان صوت جنود الاحتلال التركي مسموعاً من الطابق الأول للنفق مما يعني أن العدو كان بالقرب من الكهف. الكريلا مزكين كان يناوب في ذلك اليوم حينما سمع أصوات عدد من الجنود الأتراك. وحين رفع مزكين رأسه من موقعه، شعر جنود العدو بحركته واندلعت الاشتباكات الأولى في تلك المنطقة.

الاحتلال التركي تراجع نحو التل الثاني في تلك الليلة

بعد أن شَعَرَ الاحتلال التركي بوجود الكريلا، قاموا بإطلاق الرصاص على البوابة. الكريلا مزكين من جانبه قام برمي قنبلة على الجنود وأطلق وابلاً من الرصاص نحوهم وتحرك لإعلام رفاقه. في ذلك اليوم كان كل من أوكور، أركيش، سرهلدان ومزكين في الطابق الأول. المعركة دامت لأربعين دقيقة. جنود الاحتلال التركي لم يتمكنوا من الاقتراب من بوابات النفق وكانوا يطلقون الرصاص من مسافة بعيدة. قوات الكريلا من جانبهم كانوا يستهدفون جنود الاحتلال التركي من ثلاثة بوابات. وفي بعض الأحيان كان مقاتلو الكريلا يخرجون ويستهدفون جنود الاحتلال بالرشاشات الثقيلة. وكانوا يقومون بتبديل الأبواب لأن الاحتلال التركي كان يستهدف أحياناً بوابة معينة بشكل مكثف مما كان يستدعي استخدام بوابة بديلة وهو ما أثار الرعب والبلبلة في صفوف العدو. منذ المعركة الاولى، فهم الاحتلال التركي بأن كري صور لن تكون لقمة سائغة وسهلة وانسحب نحو الخلف باتجاه التل الثاني. ومع حلول الظلام توقف الاحتلال عن الهجوم وتوقفت الكريلا أيضاً. وبعد أيام كانت المعارك تنشب في ساعات الليل.

الكريلا كانوا يحاولون التقليل من استخدام الذخيرة

كان مقاتلو الكريلا يستخدمون القنابل بشكل مكثف. في الأيام الاولى كانت المعارك عنيفة جداً وكانت أصوات المعركة تتردد في كل مكان ونتيجة لذلك كان هنالك مناخ مختلف. بعض المقاتلين كانوا يستهدفون العدو وآخرون كانوا ينقلون الذخيرة. الاحتلال التركي كان يكتشف ذلك ولذلك كان المقاتلون يقومون بتغيير التكيتيكات حسب الحاجة. كل المقاتلين كانوا يحاولون قدر الإمكان القيام بواجباتهم ضمن تخصصهم كخلية نحل. كانت هنالك رغبة بين مقاتلي الكريلا بتوفير استخدام الذخيرة ولكن رغم ذلك كانت أصابع المقاتلين دوماً على الزناد. الاحتلال التركي ومنذ اليوم الاول كان يرمي القنابل على التل وأحياناً كانت تدخل للأنفاق وتتسبب بسقوط الغبار أو انهيار التراب نحو الأسفل. حتى أن الغازات المستخدمة كانت تنزل لأسفل النفق. انتهى اليوم الاول باشتباكات عنيفة ولكن الاحتلال التركي لم يكن قد وضع ثقله على استخدام الكيماوي بعد.

كري صور: مطالب كبيرة وسط ظروف سيئة

كانت قوات الكريلا في كري صور تعمل على تحقيق إنجازات كبيرة عسكريا، حيث كانوا يحاولون كسر العدو بشكل نهائي. كل المقاتلين كانوا يتحملون المسؤولية ويعملون على أداء واجباتهم بشكل كامل وكانت العلاقة بين جميع الرفاق مبنية على الاحترام والتعاون وكان الجميع يتمتع بحق إبداء الرأي وأخذ زمام المبادرة وكان يتم اتخاذ الرأي أو القرار المناسب بعد التشاور.

كان كري صور وبسبب موقعه الجغرافي السيء، يعاني من بعض العيوب. على سبيل المثال: عندما هاجم الاحتلال التركي تل مام رشو كانت هنالك إمكانية لإدارة المعركة من تل آخر والقيام بعمليات مكثفة في الخارج. المقاتلون في كري صور كانوا قد عملوا على تهيئة أنفسهم للتعامل مع جميع الظروف لأنهم كانوا يعرفون بأنهم لن يحصلوا على تعزيزات من الخارج. بعد احتلال العدو لمام رشو، تمت محاصرة كري صور بشكل كامل. كان هنالك خط وحيد يصل لكري صور وكان محفوفاً بالمخاطر. ونظراً لمعرفتهم بعدم قدوم أي تعزيزات من الخارج، فكان المقاتلون بضعون الخطط للأشهر القادمة وكانوا قد قرروا القتال حتى الخريف ومن ثم الخروج لمهاجمة العدو في الخارج والقيام بعمليات كبيرة. لذلك كان المقاتلون يقومون باداء واجباتهم بشكل دقيق وكل حسب مهمته.

العدو يستخدم الغازات الكيماوية الآن ولكننا بخير

عندما كان المقاتلون يتحدثون عبر الجهاز اللاسلكي ويخبرونهم عن أوضاع المعركة، كان العدو يهاجم النفق باستخدام الأسلحة الكيماوية ويستخدم بكثافة لكي يتسرب الغاز بقوة نحو الداخل. قوات الكريلا كانت على دراية بانهم يتنصتون ولذلك كانوا يواصلون الحديث على الجهاز اللاسلكي ويخبرون القيادة بان الهجوم مستمر وان الجميع بخير ولم يتأثروا بهجمات العدو.

الغازات المستخدمة تشبه السكر ورائحتها تشبه رائحة السكر المحروق ولونها أخضر

كانت الرائحة المنبعثة من الغازات التي استخدمت في البداية تشبه رائحة السكر المحروق والحلو الطعم ومصبوغة بلون أخضر. علم الرفاق أنها غازات كيماوية وتستخدم فيها الروائح الزكية لتجذب المستهدفين وتنهكهم حتى الوفاة بعد استنشاق كميات كافية منها. الرفيق تكوشين كان يقول رائحة زكية. القائد بوطان اعطى الاوامر باتخاذ الاجراءات الاحترازية وعدم استنشاق الغاز والتعامل بجدية مع هكذا ظروف وطلب من تكوشين بالحذر واتخاذ الاجراءات اللازمة كي لا يختنق. كان الرفاق قد تعرضوا لكثير من المواقف المشابهة في مناطق مختلفة وباتوا على معرفة بكيفية التعامل مع هذه الغازات.

الكريلا تراقب قوات الاحتلال التركي باستخدام المناظير

المجموعة التي كانت تعمل على مراقبة العدو في التلة كانت تعاني من بعض المشاكل لأن الكاميرا في الخارج تعطلت والجنود كانوا على بعد 50 متر يقومون برمي القنابل والغازات. لذلك كان هنالك صعوبة في مراقبتهم وإجراء عمليات كشف مستمرة. كان برفقة الجنود الاتراك مجموعة من حراس القرى الكرد من مناطق مختلفة من كردستان. الرفاق كانوا يستخدمون المناظير لمراقبة تحركات العدو وكانوا يتعاملون مع الوضع ببراغماتية ويتصرفون حسب الحاجة. القتال في الأنفاق كانت تجربة جديدة ليس لديهم خبرة فيها لذلك كل موقف كان يستدعي اتخاذ قرارات معينة.

القرار المشترك كان حول ترك منطقة بوابة التل الرئيسية

في الأسبوع الأول شن العدو هجوماً عنيفاً جداً في مام رشو، وتل الشهيد سرحدن، ورخلي وتل سليمان. واستخدم الاحتلال التركي بشكل مكثف الغازات الكيماوية والقنابل والمتفجرات. في نهاية الأسبوع الأول كان مقاتلو الكريلا منهكين نتيجة القتال وبسبب الغازات. لم يكن امام القائد بوطان إلا أن يغادر القمة، كان مصمماً على البقاء هناك والعدو كان قد تمكن من فرض سيطرة نارية إلى حد ما في تلك المنطقة. الرؤية المشتركة لجميع الرفاق كانت تتمثل في مغادرة تلك النقطة وإغلاق البوابة هناك. جاءت التعليمات من القيادة بضرورة ترك المنطقة. العدو كان يكثف استخدامه للغازات الكيماوية. الرفاق كانوا ينقلون الحجارة والتراب من تل جارجلا لإغلاق بوابة القمة. كانت مهمة شاقة لأن العدو يتربص بهم وكانوا يعانون من نقص في الإمدادات اللوجستية.

لعبة إغلاق البوابة

في إحدى الأيام التي شهدت هجوماً مكثفاً بالغازات، تأثر الرفيقان مزكين وباز وسقطا على الأرض. كان من الجيد وجود مجموعة من الرفاق من منطقة جزيرة في شرناخ ممن لديهم خبرة في التعامل مع الغازات الكيماوية. كانوا يقولون في هذه الحالة يجب استخدام الكولونيا والسكر والليمون. وبالفعل تم استخدام هذه المواد بترتيب معين واستعاد الرفيقان الوعي وتأقلما مع هذا الغاز بعد ذلك. كان العدو قد كثف هجماته على بوابة جارجلا. كانت بوابة جارجلا من أضعف النقاط في الكهف وكانت تتعرض لهجمات متواصلة. قوات الكريلا اغلقت البوابة. الاحتلال التركي كان يهاجم البوابة بالقنابل ويفتحها مجدداً. لذلك قرر الرفاق تكثيف الهجمات ضد الاحتلال من تلك البوابة. هنا اضطر العدو إلى اغلاقها من الخارج.

العدو كان يكثف هجماته في ساعات الصباح وينسحب في ساعات الليل. كان الرفيق باز يراقب بوابة جارجلا بعد اغلاقها. حاول الاحتلال التركي لعدة مرات فتح البوابة مجدداً من خلال قصفها بأسلحة ثقيلة إلا أن البوابة ردمت بشكل كامل وهو أوقف الهجمات على الكريلا لفترة من تلك البوابة استمرت حتى السادس من تموز.