أرض كردستان ذات السبعة ألوان؛ حَفتانين

بدأنا طريقَنا. كانَ طريقَاً طويلاً، بل طَويلاً للغاية. ندخل وطننا خلسةً! كي لا نُعتقَل أو نُقتلَ؛ ندخل خلسة إلى وطننا، إن لم تكن مستعمرة، فما هي إذن؟! ندخل الطريق وكأنّنا لم نمشِ بها من قبل. وكان طريقاً طويلاً للغاية.

أحياناً أقصر طرق الأرض تحسّها وكأنها الأطول، وأحياناً تشعر بالطرق الجبلية المتعرجة والمسالك الطويلة للـ كريلا وكأنّها مسيرةُ أمتارٍ.

كلُّ ما رأيتُ وسمعت يستحضرن آلاف الكلمات المنتفضة وكأنّها شاخصة لا تزال عالقة في أذني، كذلك آلاف الأوجاع ائتمنتها إلى عّينَيَّ.

نصلُ طريقاً أخرى؛ تستقبلنا لافتةٌ برتقالية اللون، مكتوب عليها "قرية سوره" بالعربية. أغصان الأشجار قد عافتها، ساقطة هي على الأرض ها هنا، متشحة بالسواد، صائرة إلى رماد، ولكن بشكل ما لا تزال تحافظ على ماهيتها، وكأنها فقط رغبت بالتمدد على الأرض قليلاً. أما الأوراقُ، فغيرُ موجودة، ولن تعثرَ حتى على بقاياها أو كسراتها فوق هذه الأرض...


هذه الأرض التي كانت داراً لأحدهم، وأمست مثوى لأحدهم. من هذه الأرض صنعَ القرويون منازلهم، ودفنوا فقداهم وأحباءَهم في هذه الأرض، صنعوا مقابر ومزارات. حتى مقبرة القرية محترقة. لا أستطيع تعداد النحل الميت والمنتشر فوق الأرض الآن أمامي. ربما أرادوا التجمع بعشرات الألوف ومهاجمة المعتدين، لهذا تراهم متناثرين هكذا على الأرض. هكذا إذن، جنةٌ تحولت إلى ميدان حرب؛ حَفتانين.

مضى أكثر من مائة يوم. لم يبق نوعٌ من الآلام أو المآسي لم يقاسيها ولم يقابلها هذا الشعب، هذه الأرض، هذه الأشجار. قليلاً إلى الأمام من هذا المشهد، رجلٌ عجوزٌ يرعى خرافه: "لقد باعوا أرضنا يا بنتي، باعوها. لن يسامحَ أحدٌ عائلة البارزاني، لن يسامحَ أحدٌ كلَّ هذه الخيانات " قال هذه وتوقّف.


آلاف الكلمات الآن تتوسل الآن رأسَ قلمي ليكتبها، آلاف الكلمات تتصارع لتسكبَ نفسها على الورقة أمامي، لتفهم هذا العم العجوز. هذا العم كأنّه جرحٌ لا يرى، جرحٌ في جنوب كردستان، كصوت لا يسمعُه أحد. يقف أمامي كمن لم يَعبُر به أحد، وينتظر ضمائرَ أشخاصٍ ما عليهم سوى فتح لواحظهم ليفهموا جلَّ الحكاية. كلمات العم العجوز تلّخص، لربما، تاريخ وطننا كردستان في القرن الحادي والعشرين.

"ليست جهنّم بالمكان الذي نتألم فيه، بل هو المكان الذي لا يسمع فيه أحدٌ أنّنا نتألم" يقولُ الحلّاج. أو ربما هي تحوّل هكذا جنة إلى جهنم من هكذا قصف. يضيق قلبُ المرء؛ لسانٌ لا يعرف ما سينطق به، وعقلٌ ووجدان لا يعرفان كيف سيستخلصان معنىً من هكذا مشهد، يضيق قلبُ المرء وتضيق كلّ خلاياه التي تشعر. فأي الآلام هي التي لم يقاسيها أناسُ هذه الأرض، أي الويلات لم تحل بهم، أي الطغاة لم يمر عليهم، أي طرق التعذيب لم تمارس عليهم؟؟

نحاول الاتّجاه نحو السفوح القريبة من القرية. نمشي، ونستمر بالمشي. حتى في السفوح هنالك منازلٌ للقرويين. لم يبقَ الكثير لمنتصف الليل، فالساعة تشيرُ إلى الحادية عشر. وطائرات الاستطلاع لا تتوقف قط؛ ثلاث طائرات عالقة في سماءات كردستان.

و... ذاك الانفجار؛ الذي قلقل حتى أتربة النمل، الذي أسقط الطير من أغصانها، الذي أيقظ الأطفال مبكياً إياهم، الذي أوعز للـ كريلا بالتحرك، الذي أسمع من به صمم، وملأ أعين العميان أتربةً، الانفجار الذي كان صعباً حتى لشاشات آلات التصوير … صوتٌ محدودٌ تعلقّ كالحلق بأذني. "لقد ضربوا منطقة بِكتوريا" قالَ مقاتلُو الكريلا اليافعين بجانبي وقد تعلقت أعين الجميع بالنجوم التي غطتها ذاك الدخان الوسخ، المنقوص الحرية حتى وهو يعلو في السماء. كلُّ ما تمنّوه ألّا يكون قد أصيب رفاقهم بسوء...

على الرغم من كثرة القصف المتواصل هنا حتى اليوم، إلا إنّه لم يكن قط كما اليوم. ربّما لم يحدث هكذا قصف في أيٍّ من الأمكنة والأزمنة من قبل، كما يحدث الآن فوق تلال جنة حفتانين، محوِّلةً إياها إلى جحيم. رغم هذا، بشكلٍّ ما، ينجح مقاتلو الـ كريلا بحماية ذاتهم والتحرّك والقتال في هكذا حيّزٍ من الكون. أجل، حينها رأيت ذاكَ المشهد الشاخص أمامي لا يزال، وربما لن أنساه قط. ربما أكثر من عشرين مروحية "كوبرا" و "سكورسكي"، تمر فوق تلة "قلعة شبانيكه"، قادمةً من طرف تلة "الشهيد كندال" وتلة "العقرب" نحو تلة "بيا" و"الحنجرة البيضاء" و"تلة التنسيق" … نحن لسنا في عام ١٩١٤ في أوربا الحرب العالمية الأولى، ولا في جبال كوبا أعوام حربها.

العام هو ٢٠٢٠ ونحن في أراضي السبعة ألوان من كردستان، حفتانين؛ التي آلت لميدان حربٍ حيث ولمائة وسبع أيامٍ الآن مقاتلو الـ كريلا الكردستانيين يقاومون كل تقنيات الحرب، المحتليّن، الخونة والمتواطئين. "مات الله" قالها نيتشه. وتابع على ما أذكر: "مات الله. الله ميتٌ الآن. ونحن من قتلناه. أليست قضيتنا هذه من العظمة بمكان؟ أليس علينا أن نكون لائقين بها ونتحول كلّ من إلى إله" هل مات الإله لأجل الكرد أيضاً؟ ربما الآن حان عهد الآلهات!