مختصر مسيرة الثورة الكردستانية: أولى مراحل وقف إطلاق النار الأولى (5)

أطلق القائد عبدالله أوجلان نداءين لوقف إطلاق النار في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، في مرحلة اشتدت فيها الحرب الثورية في كردستان، إلا أن يد السلام التي مدها القائد لم تبقى في الهواء فقط، بل دفعت دولة الاحتلال التركي لارتكاب مجازر جديدة.

انهيار جدار برلين في الأيام الأخيرة من عام 1989، كان من شأنه أن يخلق تأثير "حجر الدومينو" في بلدان الكتلة الشرقية. مع انهيار الكتلة الشرقية وسقوط الاتحاد السوفيتي وتغير الخارطة السياسية لأوروبا، كانت تهب رياح الحرية التي أثرت على انتفاضات شمال وجنوب كردستان. ومع ذلك، فإن استراتيجية النظام العالمي الجديد لم تتقبل الشعوب بإرادتهم الحرة وروادها. وبذل قائد الشعب الكردي، عبدالله أوجلان، كل طاقته لأجل حل القضايا عبر الحوار وتحقيق الوحدة الوطنية بين الأطراف الكردية في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، حيث توقع ما ستؤول إليه الأوضاع في المنطقة والعالم.

 

اجتماع 4 كانون الثاني 1991 وخيانة 1992

التقى القائد أوجلان مع جلال الطالباني، رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني في 4 كانون الثاني 1991 كخطوة أولى. حيث كانت مسألة إقامة تحالف بين الأطراف الكردستانية على رأس الأجندة الأساسية لقائد الشعب الكردي، الذي التقى في وقت سابق برئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني، مسعود البارزاني أيضاً، وجلال الطالباني، الذي سيُذكر لاحقاً كأحد الأصدقاء المقربين من القائد أوجلان المقربين قال في ذلك الاجتماع: "نحن هنا لنكون منفتحين حتى النهاية ونناقش جميع المشكلات المطروحة؛ بصفتنا جبهة كردستان العراق، فإننا نقدر نضال حزب العمال الكردستاني. إن العبرة التي استخلصناها تاريخياً هي: كلما اقتربت القوى الوطنية الكردية من عقد علاقات وثيقة وحوار وتحالف قوي، كلما تطور النضال الوطني الكردي على أساس سليم، وكلما ازداد الاشتباك والصراع بين القوى الكردية، ازداد الضرر الذي يلحق بالنضال".

كما إن الجمل التالية التي قالها عبد الله أوجلان في ذلك الاجتماع ستسجل في التاريخ: "قبل 10 سنوات، أردنا إقامة علاقات مع الأحزاب الكردية في جنوب كردستان والتقارب معها، ولكن أسباب كثيرة حالت دون سير أحزاب الجنوب والشمال نحو الوحدة؛ لقد أسهبنا في الحديث عن هذا مرات عديدة، ومن الآن فصاعدا، يجب أن نركز على ما يمكننا الاتفاق عليه".

لقد شعر قائد الشعب الكردي آنذاك بالخطر المحتمل القادم، نتيجة الصعوبات التي تواجه الوحدة الوطنية الكردستانية، وتناول الموضوع بحذر في ذلك الاجتماع؛ حيث لم يمر وقت طويل، بل بعد عام فقط، تحقق ما كان يخشاه القائد أوجلان، حيث طلبت القوى الإقليمية والدولية، وخاصة الدولة التركية، من الاتحاد الوطني الكردستاني (YNK) والحزب الديمقراطي الكردستاني (PDK) محاربة حزب العمال الكردستاني (PKK) مقابل إعطاء الضوء الأخضر للكيان الفيدرالي في جنوب كردستان. حيث كانت "الأيام السوداء" على الأبواب في تاريخ كردستان الحديث. وانعقد برلمان جنوب كردستان في هولير في 4 تشرين الأول 1992 واتخذ قرارين في جلسته الأولى: القرار الأول كان يتعلق بماهية وكيفية عقد العلاقات مع الحكومة المركزية في بغداد، والقرار الثاني كان محاربة حزب العمال الكردستاني (PKK).

بعد القرار مباشرةً، بدأت قوى جنوب كردستان إلى جانب الجيش التركي، حرباً ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني، وكان الهدف من تلك الحرب إخراج الكريلا من كردستان، وخاصة من مناطق حفتانين وزاب وخاكورك، وهكذا يشهد التاريخ الكردي مرة أخرى، كيف أن خط الخيانة والمقاومة يسيران في مواجهة بعضهما البعض في كردستان؛ في يوم 24 تشرين الأول حاربت المقاتلة الكردية كلناز كاراتاش (بيريتان) خط الخيانة في كردستان وقاومت إلى آخر رصاصة لها، وفضلت إلقاء نفسها من على جرف الصخر، رافضة بذلك الاستسلام لبيشمركة الحزب الديمقراطي الكردستاني، حيث التحقت بقافلة الشهداء/ مسطرة بذلك ملحمة المقاومة والإرادة والعزيمة في وجه الخيانة والرجعية، وأصبح موقفها هذا نقطة انعطاف وتحول في ما سميت "حرب الجنوب" عام 1992.

بعد حرب 45 يوماً، توصل حزب العمال الكردستاني إلى اتفاق مع قوى جنوب كردستان، بينما طلب الرئيس التركي آنذاك تورغوت أوزال من جلال الطالباني، التدخل في وساطة لحل القضية الكردية. خلال الأيام التي استمرت فيها حركة الرسائل بين الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال والقائد عبد الله أوجلان عبر الزعيم الراحل جلال الطالباني، تمت مناقشة عملية السلام في كواليس أنقرة. في غضون ذلك، جاء رد الفعل الأول لرئيس الوزراء آنذاك سليمان ديميريل كالتالي: "لا تفاوض الدولة مع من يسفك الدماء الدماء، وليست الدولة هي التي تسفك الدماء، أقول لهم يجب أن يستسلموا فما زال الطريق قريباً، ويخضعوا للقانون والعدالة".

 

وقف إطلاق النار الأول

ورغم اختلاف الأصوات في أنقرة، اتخذ قائد الشعب الكردي خطوة تاريخية نحو السلام وظهر أمام وسائل الإعلام العالمية في 19 آذار 1993 في بلدة "بر الياس" اللبنانية. وفي المؤتمر الصحفي أعلن القائد عبد الله أوجلان وقف إطلاق النار من جانب واحد اعتباراً من 21 آذار إلى 15 نيسان 1993. في حين لم تتخذ الدولة التركية أية خطوات جادة في مقابل يد السلام التي مدها قائد الشعب الكردي في تلك الأيام ، ومع اقتراب انتهاء وقف إطلاق النار في 15 نيسان، استدعى تورغوت أوزال، جلال الطالباني مرة أخرى إلى أنقرة وطلب منه تمديد وقف إطلاق النار.

 

تمديد وقف إطلاق النار وموت أوزال

ظهر القائد أوجلان أمام الصحافة مرة أخرى في 16 نيسان 1993. وهذه المرة إلى جانب طالباني كان هناك رئيس الحزب الاشتراكي الكردستاني كمال بورقاي والسياسي الكردي أحمد ترك. بعد مرور 24 ساعة فقط على تمديد وقف إطلاق النار، نشرت وكالات الأنباء نبأ وفاة الرئيس التركي تورغوت أوزال في 17 نيسان 1993. وبحسب البيان الرسمي للدولة التركية فقد أعلنت الوفاة نتيجة "نوبة قلبية"؛ وبوفاة أوزال، تم فتح صفحة جديدة في تاريخ تركيا الحديث وكذلك في تاريخ حركة التحرر الوطنية الكردستانية.

 

فريق الحرب على رأس العمل في أنقرة

بعد وفاة أوزال غيرت الدولة التركية أذرعها إن جاز التعبير، في 25 أيار 1993 قُتِلَ 33 جندياً تركياً تحت إشراف شمدين ساكيك على طريق بينغول- آلازغ. وفسر قائد الشعب الكردي عبد الله أوجلان مقتل أوزال وحادثة 33 جندياً، على أنها استفزازات منظمة لتعميق الحرب بخرق وقف إطلاق النار منذ اللحظة الأولى.

في تلك الأيام، عندما تولى سليمان ديميريل رئاسة الجمهورية التركية، و تانسو تشيلر رئاسة الوزراء، ومحمد آغار وزارة الداخلية ودوغان كوريش رئاسة الأركان العامة للجيش التركي، تم قتل وحرق 33 مثقفاً في سيواس؛ وفي ذلك الأثناء استشعر قائد الشعب الكردي عبدالله أوجلان استعدادات القتال التي يقوم بها فريق الحرب الجديد الذي ترأس العمل في أنقرة، وأعلن عن انتهاء وقف إطلاق النار في 8 حزيران 1993، وهذه المرة كم سنراها لاحقاً لم تبقى يد السلام التي مدها القائد أوجلان في الهواء فقط، بل وضعت الدولة التركية جميع استراتيجيات الحرب والدمار في كردستان قيد التنفيذ.

 

مع حلول عام 1995، أقدم الجيش التركي الذي أراد تعميق الحرب في كردستان، على إشراك قوات الحزب الديمقراطي الكردستاني (PDK) ومهاجمة مواقع الكريلا في جنوب كردستان بأسماء مختلفة.

وفي 11 تموز 1995، تم توقيع اتفاقية مع قوى جنوب كردستان في مدينة دبلن الايرلندية بما تتماشى مع مصالح بريطانيا وأمريكا وتركيا؛ وكان من أهداف تلك الاتفاقية القضاء على حركة التحرر الوطنية الكردستاني وقيادتها حزب العمال الكردستاني، حيث اندلعت بعد فترة قصير اشتباكات عنيفة بين بيشمركة الحزب الديمقراطي الكردستاني وكريلا حزب العمال الكردستاني، والتي استمرت لمدة ثلاثة أشهر.

 

وقف إطلاق النار الثاني وانفجار القنبلة في دمشق

لن تقتصر التطورات في عام 1995 على ذلك، حيث كانت الفترة التي تقوم فيها السلطة الحاكمة في تركيا بالتحضير للانتخابات العامة في كانون الأول 1995، حيث طلبت الدولة التركية عبر وسطاء من القائد عبدالله أوجلان، وقف إطلاق النار. حيث وافق القائد أوجلان بعد عامين من الحرب الشرسة، على وقف إطلاق النار، وأعلن عنه خلال اتصال تلفزيوني مع قناة (Med TV) بتاريخ 15 كانون الأول 1995، تمهيداً لعملية سلام جديدة؛ ولكن ستشهد تركيا وشمال كردستان، مذبحة جديدة في الأيام الأولى التي تلت الانتخابات في الشهر الأول من عام 1996، كرد فعل على وقف إطلاق النار ومناشدات الحوار والسلام.

بتاريخ 16 كانون الثاني 1996، تعرضت حافلة نقل ركاب صغيرة لنيران الرشاشات في منطقة (كوجلو كوناك) في ولاية شرناخ الكردستانية، وأحرقت بالكامل، هذه المجزرة التي أسفرت عن مقتل 11 مدنياً كردياً؛ حيث حاولت هيئة الأركان التركية إلصاق التهمة بمقاتلي حزب العمال الكردستاني، ولكن ما ظهرت الحقيقة أن عناصر من الاستخبارات العسكرية التركية (JITEM) هي التي قامت بارتكاب هذه المجزرة. ولم يقتصر رد الدولة التركية على وقف إطلاق النار على ذلك، فمن جهة أخرى، بينما تصاعدت الحرب في كردستان في شتاء عام 1996، تم تفجير سيارة محملة بطن من متفجرات C4 بالقرب من المنزل الذي كان يقيم فيه قائد الشعب الكردي في دمشق في 6 أيار 1996.

نجا القائد عبد الله أوجلان من عملية الاغتيال التي خططت لها رئيسة الوزراء التركية آنذاك تانسو تشيلر وفريقها. وفي نفس الليلة تحدث القائد عبدالله أوجلان إلى فضائية (Med TV) حيث قال: "نحن نطلب السلام والأخوة ونقول لننهي هذه الحرب، ولكننا نتعرض للقنابل في المقابل".

في غضون ذلك، كان هناك بعض الحوارات ما بين قائد الشعب الكردي عبدالله أوجلان وبين حكومة نجم الدين أربكان التي حكمت منذ صيف عام 1996 حتى منتصف عام 1997، وفقد السلطة على إثر ما عُرِفَ بانقلاب 28 شباط 1997، حيث أعلن حزب العمال الكردستاني آنذاك، إطلاق سراح عدد من الجنود الأتراك الأسرى في زاب، كبادرة حسن نية تجاه التفاوض.

رغم ذلك، كانت القوى الدولية وبالتعاون مع الهياكل العميقة داخل الدولة التركية مصممة على تنفيذ مؤامرة ضد قائد الشعب الكردي؛ حيث عقد رئيس الوزراء اليوناني كوستاس سيميتس والرئيس الأمريكي بيل كلينتون اجتماعاً سرياً في البيت الأبيض في 9 نيسان 1996، و قَبِلَ سيميتس في هذا الاجتماع التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية لأجل القضاء على القائد أوجلان، ووعد بدعم السياسات الأمريكية.

 

الحوار مع أربكان وإكمال وضع الحجرة الأولى للمؤامرة

اليونان التي وافقت على المشاركة في المؤامرة الدولية التي تحاك ضد القائد عبدالله أوجلان، كانت تهدف إلى استغلال بطاقة القائد أوجلان لأجل تحصيل تنازلات من تركيا بشأن قبرص وجزر بحر إيجة. حيث أفاد القائد عبدالله أوجلان وعبر عن تلك المرحلة في مرافعته التي قدمها إلى المكمة الجزائي عام 2003 باسم "مرافعة أثينا"، وقال فيها: "بهدف السيطرة التامة على ثروات الشرق الأوسط الظاهرية والباطنية ومواردها النفطية ومجتمعاتها وحكوماتها؛ سعت كل من بريطانيا وأمريكا بوصفها القوى المهيمنة على النظام الرأسمالي العالمي، ولا تزال في سعيها للقضاء على الدول والحكومات والتنظيمات وحتى الأفراد الذين لا يتعاونون معها؛ ولأننا نُصَّرُ على نهجنا التحرري والمستقل في الشرق الأوسط، أصبحنا هدفاً لسياسات ومؤامرات التصفية هذه؛ أثناء وجودي في دمشق، أرسلت بريطانيا والولايات المتحدة سفراء لها وأبلغتنا أن نتكيف مع سياساتهما في الشرق الأوسط، وإلا سيعملون على تصفيتنا؛ وبالطبع رفضت عرضهم للتعاون وقلت حينها إننا لن نتخلى عن الخط التحرري والمستقل في خدمة مصالح شعبنا، بعد ذلك جاء الطالباني وطلب مني مراجعة قراري بقوله: "ماذا فعلت يا أوجلان ، لقد أوقعت نفسك في مشكلة!" وحاول إقناعي بالتعاون مع هذه القوى، لكنني رفضت ذلك العرض أيضاً. نعم، لقد قرروا القضاء علي بالتآمر لأنني قلت "أنا رجل مبادئ، وصاحب خط لصالح الشعوب، أنا مناضل من أجل الحرية، وأمثل يوتوبيا الحرية والمساواة بين الشعوب على مر آلاف السنين، ولن أدخل في خدمة أحد". كانوا يظنون أنهم بتصفيتي والقضاء علي سيبقى حزب العمال الكردستاني دون رأس و يتعرض للتصفية من حاله؛ كان قرار التصفية بحقي قراراً متخذاً من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وإسرائيل قبل عام 1998، وكان من المقرر تنفيذ القرار خطوة بخطوة من قبل "غلاديو الناتو"، لأنه تنظيم غير قانوني ويقوم بعمليات مماثلة، ولكنها كانت عملية هادفة إلى ربط تركيا بهم أكثر فأكثر".