السياسة السلطوية الدولتية

تتركز السياسة السلطوية الدولتية في نموذج الدول القومية المركزية الأحادية، وهي تسعى للهيمنة والنهب وبقاء حالة عدم الاستقرار واللاحل والعقم السياسي، ولتجاوزها لا بد من بناء سياسة ديمقراطية مجتمعية والوصول لمجتمع ديمقراطي وحر قادر على حل الأزمات.

في رصدنا وقراءتنا للمشهد الشرق الأوسطي، وأزماتها المستفحلة وعدم المقدرة على تجاوزها واستمرار حروبها الثنائية البينية المفتعلة، وحالة عدم الاستقرار والفوضى والإرهاب المنتشر، إضافة للحالة الأداتية الوظيفية وتبعية نظم الحكم السائدة وسلطاتها و خاصة منظومات الفكر السياسي والثقافي والاقتصادي والإداري للخارج ومنظومة الهيمنة العالمية، وغياب المعايير الديمقراطية والأخلاقية المجتمعية، لا بد من أن نشير إلى السلطوية أولاً، أي إلى طاقة الاستغلال والقمع والنهب والهيمنة المتضخمة، أي طاقة الأزمة وتخريب الحياة وإضعاف المجتمعات وكذلك للدولة ثانياً، كتجسيد عيني لهذه الطاقة السلبية وتنظيمها المحدد بقواعد وقوانين التي تحددها السلطة الحاكمة المتنفذة لإرضاخ الإنسان والمجتمع والتحكم بإرادتهم وحياتهم. 

الدولة القومية تكاثف للسياسة السلطوية الدولتية

ومع الدولة القومية كأعلى نماذج تكاثف السلطوية والدولتية وسياستها البعيدة عن جوهر الإنسانية والمجتمعية وبل المستهدفة لهما والمنتجة والمفروضة والمصدرة لنا من قبل الرأسمالية العالمية بغرض الهيمنة والنهب، أصبحنا في دول الشرق الأوسط أمام كارثة السياسة السلطوية الدولتية التي ترافقها أو تفرض علينا نماذج إدارات خارجية عن المجتمع وكيانيته وذاته ولا تمثل مصالحه وأولوياته.

مؤشرات التدني السياسي

في غالبية ما يتم تسميته كذباً ونفاقاً بالسياسة والأحزاب النخبوية والانتخابات والبرلمانات الشكلية في دول الشرق الأوسط ومجالات التنافس والاختيار والأفضلية السياسية والإدارية والخدماتية والثقافة العامة، لإقناع مجتمعات وشعوب المنطقة وتشكيل الوعي لديها، نلاحظ مدى المستوى السياسي والفكري والثقافي المتدني وتراجع الأداء السياسي، الذي يمكن الإشارة له في عدة نقاط:

1-    استغلال الدين بشكل كبير من قبل السلطات والدول والأحزاب، فكل واحد يتهم الأخر بالكفر والإلحاد وبسلوكياتهما، مع أن الله -سبحانه وتعالى- قال "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" إلا أن السياسة السلطوية والدولتية تقوم باستغلال واستعمال الدين كأداة وستار للتغطية على هيمنتهم ونهبهم وفشل سياساتهم وعجزهم وعدم رغبتهم في تحقيق مصالح المجتمعات والشعوب. وهنا تقوم السياسية السلطوية الدولتية بممارسة النفاق والكذب والتضليل والانحراف الديني وتشويه الدين والتلاعب به وبأخلاقياته العالية، وبث خطاب الكراهية والفتنة والفرقة لخدمة مصالحها وتحكمها.

2-    العزف على الوتر القوموي العرقي الفاشي، وهي الأحادية السلطوية الدولتية التي تحاول تطبيق المعادلة الصفرية السلطوية تجاه الأخر المختلف أثنياً وقومياً، وهنا يتم فرض النمطية والتجانس القسري والاندماج القمعي على مختلف القوميات والتكوينات الاجتماعية الموجودة لهندسة المجتمعات والشعوب نحو أمة الدولة الأحادية ذات اللون الواحد، وبالتالي رفض تعدد الهويات الطبيعي وتنوعها الموجود والإصرار على هوية مزيفة مصطنعة أحادية تخدم سياسة السلطة وبقائها الى الأبد كما تشاء.

3-    التجاوز على إرادة المرأة وحريتها وسلبها حقها ودورها وريادتها الطبيعية للحياة وخاصة من الجوانب الاقتصادية والسياسية، وفي أحسن وغالبية الأحوال تقوم الذكورية والسلطوية الدولتية بخداعها باسم الحرية الليبرالية الفردية المزيفة واستغلالها كتكرار للرجل واشتقاق مخفف عنه وامتداد له، أو استمرار النظر لها كشيء وليس كفاعل للحياة ورائدتها نحو الحرية والديمقراطية المنشودة وفق كيانيتها الخاصة المجسدة لجنسها وللمجتمع الديمقراطي.

4-    الأنانية والفردانية الانتهازية العبدة والتي تصل لمرحلة بيع الفرد لنفسه وذاته وعمله وكرامته ومعرفته الشخصية، مع تلك الظروف والشروط التي تخلقها السياسية السلطوية الدولتية، كالبطالة أو الموظف العبد والمواطن الجيد الصامت، والضرورية للسلطوية الدولتية لتشتيت قوة المجتمعات والشعوب وإضعافهم، عبر الالتفاف على إرادة الإنسان والمجتمعات من خلال طرح مفاهيم الحرية الفردية دون المجتمع الذي يأتي منه و دولة المواطنة الليبرالية والتحكم بكافة أبعاد الحياة وتطبيق المركزية الشديدة وحرمان المجتمعات والشعوب من حقوقهم الطبيعية في إدارة وحماية أنفسهم وممارستهم الدبلوماسية المجتمعية.

5-    اختصار حقل السياسية المهم والعمل فيه لممارسة سلطوية رسمية دولتية ونخبوية حزبية ضيقة دون سائر المجتمع ومؤسساته الديمقراطية، في حين أن السياسة هي حقل وعمل مجتمعي وشعبي مع مؤسساتها الديمقراطية للأمور الحياتية وتداولها ونقاشها لإيجاد أفضل القرارات والأعمال وأحسنها بما يخدم مصالح المجتمع وأهدافه واستقراره وسلامته.

6-    احتكار كل ساحات الحياة ووسائل القوة والدفاع والاقتصاد والأمن والتكنولوجي لصالح الدولة وسلطاتها وأدواتها والتابعين لها دون المجتمعات والشعوب وأفراده، تحت حجج واهية تم تقديسها زوراً وكذباً، كمركزية وسياسة الدولة والصالح العام وتحقيق الاستقرار والأمن القومي والدستور والقوانين والشرعية، تلك المفردات والمواد التي تسنها السياسية السلطوية الدولتية على مقاسها ورغبتها ولأجل وجودهم في السلطة وإخضاع المجتمعات والشعوب.

7-    التخبط السياسي وعدم المقدرة على تجاوز الأزمات وحل القضايا والمشاكل العالقة، لتجسيد السياسية السلطوية الدولتية حالة الأزمة بحد ذاتها وإنتاجها للمزيد من المشاكل والقضايا بدل الحلول بإصرارها على الثقافة الأحادية والمعادلات الصفرية السلطوية وتركيزها للسلطة في ذاتها وفي الدولة المركزية فقط.

القتل الثقافي والجسدي، سلوك للسياسة السلطوية الدولتية

ولا يتوقف الأمر هنا على الآخر المختلف، بل تصبح حالة تزييف الوعي والنفاق والفرض والقمع وإرهاب الآخر المختلف وتطهيره كفرد ومجتمع وقتله ثقافياً وجسدياً، أداء وسلوك إجرائي للسياسية السلطوية الدولتية يتم ضخه وتعظيمه وتقديسه ضمن المجتمعات والشعوب ومجتمع الدولة المركزية المراد عبر وسائل التعليم والتدريب والإعلام والتوجيه المختلفة والمحتكرة وأماكن العبادة الوظيفية، لخلق بيئة مريضة ومنفعية وأحادية تتغذى منها السلطوية وتتعايش عليها وتتسبب بعقم وهشاشة ودونية وقطعنة واستحمار لدى الكثير من الأفراد اذا تخلوا عن مجتمعهم وذاتهم وارادتهم الحرة وحقهم في المقاومة لأجل الحياة الحرة.

معايير القبول والرفض للسياسية السلطوية الدولتية هي خدمة مصالحها فقط

إن السلطوية الدولتية لا تهمها سوى وجودها في الحكم واستمرار هيمنتها ونهبها ولأجل هذا الهدف فهي تختار كل إجراءاتها ومقارباتها وسياساتها، فمعايير القبول والرفض لها لأي ديانة أو مذهب أو قومية أو لأية برامج وسياسات أمنية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية، هي مقدار خدمتها للسلطة وبقائها، فمثلا يمكنهم أن يقربوا ويبعدوا أو يقتلوا ويتركوا ويسجنوا وفق مصالحهم السلطوية فقط لا غير حتى أنهم لا يحترمون القوانين التي وضعوه. ولقد رأينا عبر تاريخ دول الشرق الأوسط أمثلة كثيرة، فقد قامت العديد من السلطات باستغلال التوجهات والتيارات الإسلامية وكذلك اليسارية والحركات الاعتراضية وغيرهم لمصالحهم ولأجل تثبيت أركان حكمهم في فترات معينة وثم يقومون بالتخلص منهم إما حظرهم وسجنهم ومنعهم من العمل أو بتكيفهم وترويضهم بعد إفراغهم من الشخصيات المؤثرة الرافضة والقيم المجتمعية الديمقراطية الحرة. 

وعليه فالسلطة تقبل وترفض وفق خدمة الآخرين لحكمها واستفرادها بالقرار وممارستها للهيمنة والنهب، فليس غريباً أن نجد السلطوي الإسلامي في الصبح إسلاميا وفي المساء أو حتى في الظهر يسارياً وشيوعياً وكذلك ليس غريباً أن نجد السلطوي الشيوعي واليساري صباحاً إسلامياً وثم راديكالياً عصراً، وهذه هي حال السياسة السلطوية الدولتية في دول المنطقة بين السلطات الحاكمة والأحزاب التي تسعى وراء السلطة كهدف أوحد وليس خدمة المجتمعات والشعوب وتأمين مصالحهم وأولوياتهم، والسلطوية هنا مقاربة وتوجه وميل موجود لدى كل الراغبين بالسلطة وبالتحكم بالأخرين دون وجه حق.

تدفق السلطوية الدولتية مع الديمقراطية المجتمعية معاً

ولكن أمام هذا المشهد السلطوي الدولتي الشرق أوسطي وأبعاده الأحادية ومعادلاته الصفرية، لا بد من أن نرصد ونقر بوجود مشهد مجتمعي ديمقراطي وأخلاقي وبأبعاده التعددية وبمعادلاته التنوعية، مهما حاولت السلطوية الدولتية النيل منها وتحجيمها وإلحاقها بمجتمع الدولة القومية وبأمة الدولة الواحدة قسراً. ومن الصواب القول إن تدفق التاريخ لم يكن يوماً أحادياً وذا لون واحد أو انتهازي بشكل كامل، كما تريد السلطوية الدولتية اقناع الشرق الأوسط وشعوبها به عبر كل الوسائل والممارسات التضليلية والتي تصل أحياناً كثيرة للتطهير العرقي وممارسة الإبادة الجماعية، وإنما كانت الحضارة ومن يومها، تحتض البعدين المركزي والديمقراطي، أو السلطوي والمجتمعي، ويمتاز الشرق الأوسط بتاريخ حافل من القيم التشاركية والحرة ومقاومة شعوبها ومجتمعاتها لكافة أنواع السلطويات الدينية والدنيوية التي حاولت إرضاخهم وفرض الهيمنة والنهب والأحادية والتقسيم عليهم. 

واليوم يمكننا القول أن كل من هم خارج السلطة في دول المنطقة يمثلون بعد مجتمعي ديمقراطي رغم كل أنواع الجراثيم والملوثات والقذارات الموجودة بينهم وفي مقدمتها عدم الثقة بذاتهم سواء بالمجتمع الديمقراطي أو الفرد الحر التشاركي، علاوة على وجود الكثير من الحركات والأحزاب والنخبة التي تدعى الثقافة والسياسة، وهم ليسوا إلا أدوات للسياسات السلطوية الدولتية وانعكاس وتجسيد لها وحتى الكثير منهم عملاء ومستخدمون ومرتزقة، حتى لا يكون المجال والطرق مفتوحاً لأية انطلاقات وسياقات ديمقراطية مجتمعية حرة في دول الشرق الأوسط.

بناء ذهنية تشاركية ديمقراطية شرق أوسطية وإرادة مجتمعية وفردية حرة وسياسة ديمقراطية مجتمعية

وهنا لا بد أن نعيد القراءة الدقيقة والقيام بتحليل عميق وفق المرجعيات الحياتية الحرة والديمقراطية والطرق الدراسية وبالأبعاد الاجتماعية المهمة ولكن ليس وفق منطق ورؤية الفلسفة السياسية وعلم الاجتماع الذي يخدم السياسة السلطوية الدولتية، وإنما بالرؤية الاجتماعية والسياسية التي تضع مصالح المجتمعات والشعوب والأفراد ذوي الإرادة الحرة نصب عينها والضرورية في الوقت نفسه لفهم المشهد الشرق أوسطي وأزماته الموجودة وتحديد مسارات الخلاص ومنظوماته الفكرية والسياسية والثقافية، والوصول لتحقيق الاستقرار الاستراتيجي في مجتمعات ودول الشرق الأوسط، ببناء ذهنية تشاركية ديمقراطية شرق أوسطية وإرادة مجتمعية وفردية حرة وسياسة ديمقراطية مجتمعية. وهنا لا بد من بناء بيئة اجتماعية صحية تتجاوز وتعالج الأمراض والأوبئة السياسة والثقافية التي زرعتها ورسختها السلطوية الدولتية والذكورية، وكذلك علينا التخلص من المقاربات والأفكار والسلوكيات الأحادية المختلفة والمعادلات الصفرية السلطوية تجاه الأخر المختلف لنصل لبناء سياسة ديمقراطية ولإعادة واحياء حالة التعايش المشترك والتشارك والتكامل والتضامن بين المجتمعات والشعوب مع الاحترام والاعتراف المتبادل بين كل التكوينات الموجودة القومية والدينية والمذهبية، وأن لا تكون دعاياتنا وممارستنا السياسة لكسب ثقة المجتمع وصوته هو قتل الأخر المختلف ورفض حقوقه وإبراز الفاشية والشوفينة والذوبان فيها، كما يقوم به أردوغان وحزبه العدالة والتنمية الإخواني وسلطته المجسدة للسياسة السلطوية الدولتية والدولة التركية القومية وغيره من سلطات ودول وأحزاب وسياسي الشرق الأوسط.